رحلة في سيكولوجيا المرأة والجنس

سامح عسكر
ascooor@gmail.com

2020 / 10 / 25

ورثت البشرية من أسلافها قاعدة أساسية في الجنس وهي أن العملية الجنسية بين شريكين ذكوري إيجابي وأنثوي سلبي، وهو الذي صنع لاحقا فكرة مسئولية الأنثى عن الجنس بوصفها الطرف السلبي الذي يقبل ويرفض، بينما الذكور ليس لديهم سوى العرض، وهذه غريزة حيوانية مشهورة بالعموم دائما نرى للذكور النزعة الإيجابية في الطلب وللأنثى نزعة سلبية في القبول والرفض، عدا بعض الحيوانات كالسنوريات مثلا التي تبدأ فيها العملية الجنسية بعرض أنثوي عن طريق الاحتكاك وخلافه..

تطورت هذه القاعدة لتصبح أي أنثى جميلة هي مرغوبة جنسيا وفرصتها للممارسة أكبر من الأنثى متوسطة الجمال، والمتوسطة فرصتها أكبر من قبيحة الشكل، لكن بمراجعة نفسية للسلوك الجنسي ربما نرى شئ مختلف ظهر لاحقا باعتراف إنساني أن الجمال نسبي والأذواق مختلفة..لكن تظل سمة مشتركات بين كل هذه الأذواق على جمال وسحر بعض الإناث التي يمكن وصفهن أنهن عابرات لكل الأذواق لخطابها المبطن للحاسة البصرية والشعور الإنساني بالراحة، وهؤلاء الإناث تحديدا هم الذين تغنى بهن الشعراء وألهمن خيال الموسيقيين للعزف، حتى أنه يمكن القول بأن كل مقطوعة موسيقية مشهورة خالدة ورائها أنثى جميلة نظرا لأن كل - أو الغالب - على فئة الملحنين الذكورة..

في رأيي أن الرغبة الجنسية هي طاقة ساحرة وجذابة للشخص بغض النظر عن جمال المظهر، شئ في الدم راسخ جدا ومُغري للفرد لا يمكن وصفه لكنه يخرج على شكل كلمات وأشعار وأحاسيس مرهفة واضطرابات نفسية أحيانا عند رؤية الحبيب، فالذي يحدث أن الإنسان عندما يرى حبيبه يتوتر ويفقد تركيزه وهدوءه ومن ثم يقرر إما الاقتراب من حبيبه أكثر والتودد إليه أو مغادرة المكان خشية الإحراج أو ظهور علامات التوتر هذه التي يفسرها الناس في الغالب على أنها ضعف، والإنسان معتز بكبريائه فلا يمكن أن يقبل ظهوره بصورة الضعيف خصوصا من الذكر تجاه الأنثى، أما الضعف الأنثوي تجاه الذكر - والذي يظهر بنفس أعراض الضعف الذكوري - هو مقبول مجتمعيا بُحكم قوامة الذكر وشدته البدنية وتحكمه غالبا في السلطة والثروة، لذا فالأنثى لا تخشى من ظهورها ضعيفة غالبا حين رؤية الحبيب وهذا سر وصف النساء بضعف قدرتهن على التحكم.

بينما إذا راجعنا التاريخ الجنسي للمرأة نجدها أكثر تحكما من الرجل الذي يضعف في الغالب أمام أي أنثى ، لكن العكس غير صحيح، فالإناث لا يضعفن كما يضعف الذكور ولديهن قدرة على التحكم وإخفاء ما يُبطنّه في العلن، لذا فعندما تظهر الأنثى ضعيفة ويجري تفسير ذلك الضعف على أنه حب فهو عن طمأنينة قلبية لديها ووعي كامن بقبول المجتمع لهذا الضعف، وليس لأنها عاجزة عن التحكم في مشاعرها، والتجربة أكدت تلك الحقيقة بنجاح المرأة في تقلد المناصب العليا وخصوصا الدبلوماسية منها التي هي أرفع منصب وظيفي يتطلب قدرة غير عادية على التحكم.

لكن ولأن القاعدة الجنسية التطورية بسلبية المرأة في العلاقة وأنها الطرف الذي يتوقف عليه نجاح العلاقة أو فشلها فقد توطنت فيها مشاعر الجمال وصارت أكثر قبولا وتفاعلا مع الطبيعة الخلابة وسحر الكلمات وعذوبة الألحان..فلا يمكن مساواة وقع اللحن على نفس الأنثى كوقعه على أنفس الذكور، هذه حادثة تخضع لنظرية القابل والفاعل..فاللحن واحد لكن الأنثى سمعته بشكل والذكر بشكل مختلف، والسر في طبيعة أنثوية توطنت فيها كل عناصر الجمال المعروفة من صوت وشكل ورائحة وملمس..إلخ.

وهذه الطبيعة وهبت الأنثى قدر كبير من الذكاء يمكنها قراءة بعض أفكار الآخرين عنها بالخصوص، وهذا الذي اشتهر بين الناس بالحاسة السادسة، وهي في الحقيقة ليست حاسة مساوية للحواس الخمس..بل هي حدس شعوري فطري أنثوي لا يملكه الرجال الأقل تفاعلا مع صور الجمال في الكون، ولسبب آخر يتعلق بهذا الحدس هو أن رسوخ الجمال في نفس المرأة أثّر على حُسن رؤيتها للكون فصارت أكثر تفاؤلا..والمتفائل أكثر رحمة وهدوءا..لذا فالمرأة اكتسبت مشاعر الرحمة والهدوء هنا أكثر من الرجل لهذا السبب، أنها متفائلة ولديها قدر عالي من الذكاء – النابع من شعورها بالجمال الدائم – مما أكسبها القدرة على تناول الأشياء بنعومة ورقة ورحمة متفقة تماما مع شعورها الداخلي..

لكن هذه الطبيعة الأنثوية كما أنها إيجابية في هذا النحو هي سلبية في اتجاه آخر المتعلق بمشاكلها خصوصا من بني جنسها، فمشكلات الأنثى مع الأنثى أكبر وأعقد وأخطر في رأيي من مشكلاتها مع الذكر، هي تتعامل مع الرجال بتحفظ دائما عدا القريب والحبيب، لكن شعورها بالجمال أعطاها جانب من الأنانية محفور في الوعي الباطن خلاصته : أنها الوحيدة القادرة على الشعور بهذا الجمال وهي الأذكى بين أقرانها..شئ شبيه بما يُكنّه العلماء لأنفسهم في مجالاتهم، تجد الفقيه حساس جدا ضد الفقيه الآخر المنافس خصوصا من نفس تياره الفكري، وهذا شئ مرتبط بغريزة التنافس الحيوانية، فكل إنسان يرغب في تفرده الدائم وعلوّه على جميع الأقران والأنداد، وبما أن الأنثى سلبية الجنس – كما تقدم – ففرصها في الاختيار والتنوع تكون محدودة خلافا للرجل الذي يملك خيارات متنوعة أكثر.

سلبية الأنثى في العملية الجنسية هنا ومحدودية خياراتها أكسبها روح منافسة شريفة للظهور بأفضل مظهر حسب الإمكان، وهذا سر من أسرار جنوح المرأة للتزين وارتداء الحُلى منذ آلاف السنين..فهي عِوَضا على شعورها بالجمال الداخلي وباطنها الممتلئ حُبّا ورحمة وخيالا هي أيضا لا تريد من أقرانها وأندادها الانتصار عليها في إعجاب الرجل، وهذا السبب الذي اختلط على رجال الدين بفتواهم الشهيرة في حرمة (إظهار الزينة الأنثوية) بدعوى أن ذلك التزين سيجري تفسيره على أنه فرصة للجنس لقاعدة أساسية لديهم بأن قبول المرأة ورفضها هو الذي سيحدد تمام العملية الجنسية، وهذا سر عقاب المرأة منذ بدء التشريعات الدينية قبل آلاف السنين وحمل الكهنة مسئوليات الزنا أكثر على النساء، وفات على هؤلاء جميعا أن الرجل مسئول بالقدر نفسه من ناحية..ومن ناحية أخرى إهمالهم – أو جهلهم – بأن تزين المرأة تَجمّلها وحرصها على ارتداء الأنظف والأجمل لا يتعلق فقط بالمنافسة وإعجاب الذكور بل له أسباب أخرى قلناها كشعورها الداخلي بالجمال ورغبتها في الظهور بشكل أفضل يتناسب مع صورتها الداخلية عن نفسها.

حتى أنه يمكن ملاحظة هذا الجانب الثاني في البنات الصغار الذين يحرصن على التجمل والتزين أمام المرآه، وبالتأكيد هذا السلوك منهن لا يتعلق بحرصها على المنافسة وإعجاب الذكور فقط بل لشعورها الداخلي الموروث من أسلافها..وكذلك له علاقة بالهرمون الأنثوي المُشكّل لجسدها وسلوكها وحركاتها وأصواتها، حتى أنه يمكن التنبؤ بسلوكيات هذه الأنثى مستقبلا طبقا لمراحل تطور هذا الهرمون ، فكلما نشط في المرحلة العمرية من ال 20 حتى 40 نجد أن الأنثى في هذا العُمر أكثر أنوثة وحرصا على التزين والظهور بأفضل شكل، بالتالي فللأمر علاقة بيولوجية علمية لا خيار للمرأة فيها مما يعني أن عقابها على ذلك التزين أو قهرها بعدم الاختلاط والحجاب يقتل هذه النزعة الأنثوية الجمالية فيها فتتساوى مع الرجل غالبا في شعورهم المشترك بالجمال.

ويمكن ملاحظة ذلك في أن المجتمعات الأكثر منعا للاختلاط والأكثر تحجبا ونقابا وعُزلة لنسائها مفتقدة لمعايير الجمال المطلوبة سواء في الملبس والأذواق والسلوكيات ..حتى في الشارع وإحساس المواطنين بالنظافة، والسر في ذلك أن مصدر الجمال في المجتمع وشريانه المغذي تم قهره ومنعه من طبيعته التي نشأ عليها، فيفقد المجتمع تذوّقه وشعوره ..حتى أنه يفقد أيضا فنونه المختلفة فتصبح موسيقاه أكثر قُبحا وشعراءه وأدبائه أكثر غباءا..والعكس صحيح، فأين للشاعر من جمالٍ يتذوقه ليُشعِر وأين للأديب من حُسنٍ وبهاءٍ وتنوع ليكتب، خصوصا وأن للأدباء حاسة عقلية يفقدون فيها القدرة على الإبداع مع ضعف التنوع، أي كلما حرص المجتمع على العزلة والغلق والمنع لم يعد بالتالي هناك صوراً تُلهِم الأديب فيضطر لكتابة ما يجول بخاطره المحدود والمرتبط أساسه بالصور المحدودة التي يراها.

فالألوان المتعددة صارت واحدة واثنين في الأسود والأبيض، والعلاقات المتعددة صارت إما حلالا وإما حراما..لا يوجد خيار ثالث، والموسيقى إما سريعة أو بطيئة..وهكذا، ففقدان المجتمع تنوعه وجنوحه للانغلاق لا يؤثر فقط على الفكر الديني بحيث يكثر التشدد وتفسير كل شئ بمنطق الأبيض والأسود..بل أيضا يؤثر سلبيا على الأدباء والشعراء والفنانين، ولذلك صارت للمرأة أدوار رئيسية في الحضارة ليست فقط باعتبارها مصدراً للجمال الكامن ، بل لقدرتها على صناعة هذه التعددية المطلوبة الذي سيعد نجاحها في ذلك هو قفزة إيجابية مهمة في تغيير نظرة الذكور للمرأة من كونها وعاء جنسي إلى كائن طبيعي له دور فريد وإيجابي في تطور المجتمع للأفضل ، ومن ثم تعديل سلوكياته من العنف للسلام، ومن القسوة للرحمة..ومن القُبح للجمال..وهكذا.

نقطة مهمة في هذا السياق: أن الطبيعة الأنثوية في شعورها العالي جدا بالجمال وحرصها على أن يكون مظهرها جذابا دائما هو (سر من أسرار ثقتها بنفسها) ومن لا يثق بنفسه لا يثق بالآخرين، فالأنثى أكثر ثقة بالآخرين ناحيتها من الرجل..هي تأتمن أي رجل على شكلها إلا لو ظهرت عليه بوادر عدوانية كالابتزاز والتحرش والاستغلال، هي تلبس ما تريد وليس في مخيلتها أن ما ترتديه قد يتسبب في اغتصابها أو التحرش بها أو ابتزازها، أو طلب الرجل بعلاقة معها ليست نزيهة..مجرد نزوة ورغبة عابرة لا تقدير فيها للأنثى ككيان ولكن كجسم، بل أن الأزياء والموضة وملابسها قد تبدي جمالا في جزءٍ منها للرجل فيختصر أحد الذئاب جسدها كله في هذا الجزء، برغم أنها فضلت تلك الملابس ليس لرغبة جنسية أو تكوين علاقة بل لمجرد تفضيل ذاتي وشخصي جدا متناسب عن صورتها الجميلة أمام نفسها في الذهن والمرآه.

وقد لا يكون ذئبا فلمجرد هذا الجزء البسيط الجميل الذي طغى على مخيلة وذوق الرجل قد تنجح العلاقة بزواج ناجح وأطفال لاحقا، هنا لا تعميم ..مما يعني أن ما لا تدركه الأنثى من مواضع الجمال فيها أحيانا قد يكون هو سر سعادتها واستقرارها النفسي ورضائها الجنسي في المستقبل، لاسيما أن الأنثى أحيانا يُجال بخاطرها أشياء..ما الذي أعجب شريكها فيها بالضبط؟..خصوصا أنه وبعد العلاقة لا تلحظ اهتمام شريكها بهذا الذي تظنه، بل تراه يهتم بشئ آخر مختلف..مما يثير في نفسها الشكوك بأن شريكها لا يحبها مثلما ترغب وتأمل، لاسيما أن كثير من حالات الطلاق وفشل العلاقة قد يكون ورائها هذا النوع من التفكير الذي يجري تفسيره لاحقا سوء تفاهم، وهذا يعني أن الصراحة الجنسية – بالذات – مطلوبة بين الزوجين ليس فقط أثناء العلاقة الحميمة ولكن في الساعات العادية يجب أن يحدث نقاشا جنسيا بين الشريكين كلٍ منهم يُظهر للآخر ما يُبطنه من مواضع الجمال والإغراء التي يراها، ويذكر بالأخص ما يثيره جنسيا بالدرجة من أعلى لأسفل، وهذا سلوك جنسي صحي أساسه التفاهم بين الشريكين يؤدي حتما لبناء الثقة المطلوبة لإتمام العلاقة بنجاح.

فالجنس الحقيقي لا يؤدي فقط لمتعة حسية ومادية متبادلة، ولكن ينقل مشاعر وتجارب حقيقية بشكل آلي بين الشركاء، ومن ثم يصل كليهما لقمة هرم المتعة في شعورهما التام بالحرية والتحرر والانطلاق والطيران ، خلافا لو قرر أحدهما أن يخفي أمرا على شريكه فهل سيشعر بنفس المتعة والحرية السابقة أم سيظل تحت سيف الضمير يُخفي ما يعتقده تماما أنه يُغضِب شريكه الذي قد يؤدي لفشل العلاقة والانفصال، وهنا نقطة مهمة جدا أزعم أن غالبية الشركاء يعانون منها، فالإنسان في جنسانيته ليس صريحا بما يكفي لإرضاء ضميره، بل تراه في المقام الأول يهتم إما بإرضاء جسده أو إرضاء شريكه..لكن ضميره يظل في الثلاجة ما دامت نهايته هي الدمار لكل أحلامه ومنزلته الاجتماعية..

ولكي أكون أكثر صراحة فالمرأة والرجل كلاهما قد يمارسان الجنس ليس عن وجود حقيقي لكليهما ولكن عن خيال غائب مثلما تعرض فيلم "الحاسة السابعة" للفنان أحمد الفيشاوي لذلك، بعدما كسب القدرة على سماع أفكار الآخرين النفسية، وكانت صدمته أن والديه يمارسان الجنس مع أفكار ومخيلات أخرى خارج غرفة النوم، فأبيه يحلم أنه يمارس الجنس مع شاكيرا وأمه تحلم أنها تمارس مع كاظم الساهر..نقطة أخرى وأن متعة الجنس قد تدفع الطرفين لغض النظر عن عيوب الشريك كرائحته وعُنفه وأنانيته وأخلاقه البذيئة ، فيضطر لقبول العلاقة والتمتع بحدها الأدنى ثم الصمت عن العيوب كي لا يُغضِب شريكه، علما بأن النشاط الجنسي يفقد دوامه بتلك الطريقة فعندما تذهب جاذبية الشريك الجنسية لا تأتي بسرعة، فيضطر الشريك الآخر لمداعبة عواطفه مع خيال ساخن هو بالنسبة له تعدى حاجز المداعبة لعلاقة حميمية حقيقية ولكن في مكان وزمان آخر يقبعان فقط داخل المخيلة الذهنية.

هنا تصبح ما تسمى "فتنة النساء" مجرد وهم، فرجال الدين يتداولون تلك النصوص لتحميل الأنثى إما فشل العلاقة وإما شيوع الانحراف "اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". وحديث: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" فما سبق يؤكد أن مشاعر الشركاء متساوية..فالرجل فتنة للمرأة بنفس قدر افتتان المرأة بالرجال، وفتنة بني إسرائيل لم تكن فقط في نسائها..بل أيضا في رجالها الذين أغروا نسائهم في الباطن، مما يعني أن هذه الأقوال مصدرها ذكوري لا يعلم طرق التفكير الأنثوية ولا مشاعرها ولا أساليبها في التعبير عن ما تحب، وقضية "تحرير المرأة" أولت هذا الجانب كل الاهتمام وهو نقل مشاعر المرأة الحقيقية وأساليبها وطُرق تفكيرها..حتى أن روايات إحسان عبدالقدوس - التي أصبحت بعد ذلك أفلام سينمائية – شكلت جزء كبير من فكر النسوية وقضاياها ومشاكلها الذي كان غائبا عن الرجل .

ولأن فكر عبدالقدوس النسوي يتصادم مع ثوابت المجتمع الذكوري تعرضت أفلامه للقهر ووصاية الرقابة، فمن ينسى أدوار "فاتن حمامة" في لا أنام والطريق المسدود؟ عند قراءة القصة الحقيقية نجد السينما والرقابة فرضوا عليه تعديل القصة بما يتناسب مع ثوابت المراقبين الذكورية، وكذلك أفلام البنات والصيف والنظارة السوداء وبئر الحرمان، ورائعته النقدية "الراقصة والسياسي" نجد أن عبدالقدوس بفكره النسوي نجح في نقل آلام ومشاعر المرأة وحرمانها للمجتمع الذكوري، بينما جرى تفسير هذا الفكر عند إحسان من قَبَل رجال الدين بأنه "فكر علماني" وفي الحقيقة أنه "فكر إنساني" وخيال أدبي مارسه أدباء عصر النهضة الإسلامية وبعض الفقهاء كالسيوطي الذي كتب في الجنس وثقافته 6 كتب هي "المستظرف في أخبار الجواري، وفي الجماع وآلاته ونزهة العمر في التفضيل بين البيض والسمر وضوء الصباح في لغات النكاح ومباسم الملاح في مواسم النكاح ونواضر الإيك في معرفة الن......"

مبلغ ما وصل إليه السيوطي هو تخيل الحالة الجنسية عند البشر، وهو اتجاه (إيروسي) له فنونه الخاصة وإن لم يتوسع السيوطي في إطلاق العنان لخياله كما تتطلب الحالة الإيروسية، علما بأن إيروس كان إله الجنس عند اليونان، ومن اسمه اشتقت كلمة إيروتيك erotic أي إثارة جنسية، وهذه النزعة الإيروتيكية لم ينفرد بها السيوطي ولكن ظهرت عند الأصبهاني في كتاب الأغاني وعند الجاحظ في رسائله وفي بلاغات النساء لابن طيفور.

لكن ما جمع هؤلاء جميعا الرؤية الذكورية للجنس في الغالب، وعدم استطاعة أحدهم التفكير من خارجها، فتحدثوا عن المرأة (كوعاء جنسي) وعدم الاعتبار بحقها في الشعور باللذة والشهوة، وهذا الاتجاه النفسي هو ما دفع هؤلاء الفقهاء للقول بختان الإناث قصدا بتعديل شهوتها ألا تثار دون تدخل من الرجل، إنما الحق يقال: تصنيف هؤلاء في الجنس سبق المعاصرين في تناول مسائل شائكة بجرأة، فالجنس أحد أضلاع مثلث التابو taboo مع الدين والسياسة، ووضعه ميشيل فوكو كأحد أضلاع مثلث التأثير في حياة البشر مع السلطة والمعرفة، مما يعني أن قدرة السيوطي والأصبهاني وابن طيفور وغيرهم على التصنيف في الجنس هي نفس قدرتهم في النقد والكتابة من خارج الصندوق إذا توفرت لديهم الأدوات المعرفية والحريات لفعل ذلك.

أي أن من نسميهم سلفيين وأزهريين وكل مقلد الآن لهؤلاء لا يقلدهم في الحقيقة، إنما أخذ جانبا واحد من حياتهم الفكرية وتعصب له كعنوان ليس إلا، ولو قدر الله أن يوجَد أمثال العريفي وحسان في زمن السيوطي لصاروا تلاميذ فاشلين واختفوا لصالح من يفوقهم قدرة على التقليد بذكاء..

الفارق المسجل بين أعمال عبدالقدوس والسيوطي أن عبدالقدوس هو نتيجة ثورة نسوية وحقوقية بدأت من القرن 19 لم توجد عند السيوطي وابن طيفور والأصبهاني، فوظّف خياله الأدبي ومعرفته بفنون الجنس وعلم نفس المرأة في الكتابة وتصنيف عشرات الروايات النسوية التي تتناول الجانب المظلم في المرأة بالنسبة للمجتمع والمضئ بالنسبة للنساء عموما، حتى لو أحصينا نسبة مشاهدي أعمال عبدالقدوس وجمهورها نجد أن الفئة الأكبر منها نسائية لا زالت تكتب وتروّج لهذه الأعمال في الصحافة وتبني عليها أفكار ومعتقدات وتطرح حلولا اجتماعية لمشاكل آنية بناء على قواعد رسّخها عبدالقدوس، وبدرجة أقل أعمال نجيب محفوظ خصوصا في الثلاثية التي تناولت "عبودية المرأة للذكر" في عصر قريب، ثم أعمال قاسم أمين الذي لم يسلم هو الآخر من التكفير الذكوري وحمل قضيته في تحرير المرأة على مؤامرات الاستعمار والتغريب بنسب كل أفكاره عن التحرير للاستعمار الفرنسي.

لقد حاول قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة" إقناع الجمهور والنخب الإسلامية بأن علاقة الذكر بالأنثى ليست محصورة فقط بالجنس، هناك علاقات بريئة من الصداقة والتعاون والمنفعة لا يجب إهمالها..وأنه من خلال تلك العلاقات البريئة يجب أن تحصل المرأة على حقوقها في التعليم والاختلاط والظهور المجتمعي، وأن الذي يحدث لدينا من تصوير تلك العلاقة فقط بالجنس هو مجرد "تقليد مجتمعي وأعراف نشأنا عليها لا علاقة لها بالدين" وأن المجتمعات القوية هي التي تعطي للمرأة حقوقها الاجتماعية أولا، ولا تحبسها في زنازين مغلقة بدعوى التقاليد والعادات..وأن حصر العلاقة بين الذكر والأنثى فقط بالجنس هو لا يهين النساء فقط ولكن يهين الرجال أيضا بتصويرهم على أنهم حيوانات لا همّ لها سوى إفراغ طاقتها الجنسية.

بل أن العزلة هذه نتائجها أخطر في تصوير المرأة فقط كوعاء جنسي يصبح أي لقاء له مع ذكر هو فرصة للجنس، وخطورة ذلك أن تأثيره غير محصور فقط على الرجل بل على المرأة أيضا التي تظل حبيسة لتلك العادات والتقاليد محرومة من أدنى حقوقها المجتمعية وهي "الحب" فتكثر مشكلات الأزواج والخيانة مثلما صوّرت السينما المصرية هذه الخيانة في أعمال كثيرة أذكر منها "الطريق لشادية رشدي أباظة، ورجل وامرأة لناهد شريف ورشدي أباظة أيضا، وعيون لا تنام لمديحة كامل وأحمد زكي، ووصمة عار لنور الشريف ويسرا"

قصص تؤكد قاعدة أن "خير الناس..هو أكثرهم التزاما بالقانون" لأن الطبيعي حين يقصر الزوج عن أداء مهامه الجنسية أن تضعف المرأة تجاه من هو أفضل وأنشط منه، وأظنها مشاعر مكبوتة محكومة بقيود الدين والعرف والقانون..وفي النهاية تجد تأثير هذا الملف على تماسك وسعادة الأسرة سلبي، فما نصفه لدينا بأفلام الكبار كانت تناقش هذه المشكلة بالأساس، وطاقمها الفني كله يعلم نوع الرسالة التي يؤديها للمجتمع، لكن مؤخرا وحين اتجهت السينما لإنتاج أفلام الجريمة والكوميديا والميلودراما..اختفت تقريبا أفلام الكبار والسينما (النسوية) التي أدتها نجمات كفاتن حمامة وماجدة من قبل..

الفنانون لهم عذر بشيوع قيم محافظة منذ أوائل الثمانينات وبالتالي شعبنا الآن غير متقبل هذه النوعية من الأفلام رغم عشقه لها في السر، فلم يعد الإشكال حاليا في كيفية عودة هذا الفن الواقعي لمصر، لأنه حتى لو حضرت الرغبة الصادقة في إحيائها لكن (قدرة) مصر على إنتاجها أصبحت معدومة، فالمؤلف والممثل القادر على إبداع المشكلة وحلها لم يعودوا في الساحة، حتى أفلام التصدي لجرائم الرأسماليين لم تعد متاحة لأن الرأسمالي حاليا متلحف بالسلطة ويجعلها ستار لأهوائه من سرقة ونهب ممكن تطال أعضاء المواطنين، وهنا يظهر جانب آخر من مشكلات النساء في مجتمعنا وهو ربط تلك المشكلات بالطبقية والاستغلال، فكلما زاد معدل الاستغلال والفارق الطبقي كلما أصبحت الأنثى أكثر مهانة وذُلّا ، لاسيما أن قضايا النسوية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالصراع بين القوي والضعيف، الفقير والغني..إلخ.

وهذه كانت إحدى اعتراضاتي على ما تسمى "بالنسوية العربية" التي لا تهتم غالبا بالمساواه والعدالة الاجتماعية والدينية والعرقية والسياسية بل بموقفها المحوري فقط من الذكور، وفي الحقيقة أن أي ناشطة نسوية تقدم المال والدين والعرق واللغة هي (تهدم) أصل فكرتها القائمة بالأساس على رفض الظلم والاستغلال على أساس الجنس والانتماء.. ولدينا نموذج "سيمون دي بوفوار" مثلا كأشهر ناشطة نسوية في العالم ، وفيلسوفة الفكر النسوي، لو راجعنا تاريخها نجدها ناشطة سياسية ضد الظلم واجتماعية ضد الاستغلال الطبقي..في حال لو راجعنا تاريخ أغلب نسويات العرب لا نجد هذا الإنجاز..لذا فلم يتقدم ملف حقوق المرأة العربية حتى الآن ولا زالت في الصف الأخير من بين كل نساء العالم..

أما النسوية العربية الأولى فظهرت كجزء من حركة نسوية عالمية في أوروبا، كهدى شعراوي ونازك العابد وغيرهن..لكن النسويات العرب الآن قفزن على جهودهن منذ 50 عاما تقريبا، حتى وصل الملف النسوي العربي لأسوأ أحواله من بين كل نسويات العالم، والعبرة بالنتائج ، فلا يمكن تحميل مسئولية ما حدث فقط للعدوانيين الذكور..هذا الاتجاه النسوي الصامت عن حقوقه والذي يهتم بجانب واحد فقط أفرغ له كل حساباته هو سبب أصيل في الأزمة , وكما قلت ليس تعميما فالأقلام الجيدة والنسوية موجودة – كنوال السعداوي وسحر الجعارة وغيرهن - لكنها لا زالت صرخات في فناء واسع بلا أفق لا تجد الصدى الكافي والدعم القادر على التغيير..

ففكرة النسوية قامت بالأصل للدفاع عن حق المظلومات ووقف استغلال ضعف النساء وفقرهن الناتج عن بُعدهن الشديد عن مصادر السلطة والثروة، وبالتالي فمبدأ دعم النسويات للشيوخ بالذات أو أصحاب رأس المال أو الاصطفاف في الحروب على أساس (لغوي - ديني - عرقي - قومي) هو هدم للفكرة النسوية نفسها، مما يعني أن أصحاب هذا الاتجاه النسوي (المُصطف) لا زلن مراهقات فكر..وغير مستوعبين بعد طبيعة وجوهر القضية التي يحملنها، والاستثناء لبعض الأقلام والرموز التي كافحت في هذا الإطار بينما لم يجدوا الدعم الكافي من بقية النساء، الذين أفرغوا الحق النسوي من مضمونه إما إلى نفاق للأقوياء والنافذين..أو اختصار الحق النسوي فقط في مبدأ "التعري" الذي هو حق شخصي بالتأكيد لكنه لا يمثل جوهرا ولا قضية لحقوق المرأة..

ففي النسوية العالمية يوجد مصطلح "مانس بلننج" mansplaining ويعني قوامة الذكر، لكنه يُعرَف بمعنى (تحقيري) لمن يعتقد بقوامة الذكر على الأنثى وتفسير كل ما يخص المرأة من وجهة نظر الرجال، بالتالي هو أحد أعراض التسلط الذكوري والعنصرية الجنسية ضد الآخر، وليس بمعنى شرعي وفقهي كما يعتقد المسلمين..

المذيعة المصرية رضوى الشربيني تُقدّم نفسها على أنها (نسوية) أي تدافع عن حقوق المرأة الاجتماعية، وهذا اتجاه ثوري اشتهر في القرن 20 وكان له فلاسفة ذكورا وإناثا وحركات ومظاهرات حتى اعترف العالم لأول مرة بحقوق الأنثى الضائعة منذ آلاف السنين، هي تفعل شئ جيد بكل تأكيد..إنها تثور..تتمرد على أعراف وثقافات، لكن أهم عُرف وثقافة يمثلان أحد أعراض التسلط الذكوري وهو (الحجاب) لم تنجح في تجاوزه، واضطرت آسفة - وكان يبدو على وجهها الخجل والسذاجة- أن تفتي من منبرها الإعلامي أن الحجاب فرض عين على كل مسلمة وأن غير المحجبات (راكبهم الشيطان)

حتى في ازدرائها غير المحجبات استعملت مصطلحات الشيوخ، مما يعني أن اتجاه النسوية العربي لا زال يعاني من الفكر التقليدي والخوف الكامن والعنف غير الطبيعي من المتدينين لخصومهم، فرضوى حسبة قناعاتي غير مؤمنة بفرضية الحجاب لكنها اضطرت للقول بذلك استجابة لضغوط مجتمع وقوة الشيوخ وتأثيرهم في العوام..وهي حسب تقديري أن جزء كبير من حياتها مبني على الظهور المجتمعي وتكره العُزلة..لاسيما أن الإنسان بهذه الطبيعة يصبح قليل التضحية وبراجماتي إلى أبعد مدى، مثلها كثيرات في الإعلام..مذيعات..فنانات..شاعرات..مسرحيات..وزيرات، هؤلاء إذن مرضى ب mansplaining وإن قدموا أنفسهن كنسويات، لكنهن مرضى بالتسلط الذكوري وقبوله، فأبسط دليل عقلي ضد الحجاب ينسفه وهو أنه لو كان شعر المرأة مثيرا للرجل فشعر الرجل بالمقابل مثيرا للمرأة..بعدها ندخل في جدليات فلسفية واجتماعية لتقدير حجم الشهوة ورد الفعل وقوة كل طرف..إلخ، لنصل في النهاية أن كلا الجنسين متساويين في حق الملبس وأنه لا لطرف منهم أن يفرض قناعاته على الآخر..

ومع ذلك تظل رضوى في رأيي هي الأقدر من كل صنوف النساء في معاملة الذكر، فهي تُرضيه دينيا لكنها لا ترضيه اجتماعيا، والمرأة بهذه الطبيعة تنسج علاقاتها على أساس براجماتي كبير..فهي تكسب الأنثى لصفها تحت ستار الحق القانوني المدني والحداثي، وفي ذات الوقت ربحت الذكر تحت ستار الدين والعُرف والتقاليد، سنعرف بعدها لماذا الكثير من العقلانيين والفلاسفة كانوا فاشلين اجتماعيا ، وبرغم عقولهم الجبارة في إقناع الأذكياء..لكنهم فشلوا في إقناع الجنس الآخر بأنفسهم، مما يعني أن نموذج هذه المذيعة وانتشاره دالا على شيوع الغباء باسم المنفعة..وازدراء العقل الإنساني لصالح رجل الدين والجهل بالعموم..

هنا يظهر جانب آخر مكبوت في نفس الأنثى، فهي وإن رفضت ذكورية المجتمع في الظاهر لكنها تُذعِن له في الباطن كحقيقة مُسلّمة شكّلت حتى عواطفها وذائقتها الجنسية، فالمرأة قبل ممارستها للجنس تكون فاقدة لإحساس المتعة به، وكل صورها عن الجنس عبارة عن تحكمات ذكورية وطاعة وعبودية..مشاعر مكبوتة لا يُفصَح عنها لكن تظهر في خجلها الشديد وخوفها من ليلة الزواج أو ما تسمى "ليلة الدخلة" فبرغم حب الزوجة لزوجها والحبيبة لحبيبها لكن أول لقاء جنسي يكون مشحون بالخوف والقلق والتوتر ليس لمجرد أنها تجربة جديدة لم تذقها..لكن خوف من مجهول في الظاهر له مقدمة محذوفة في الباطن تقول أن ممارسة الجنس مع ذكر هي عملية غير مأمونة العواقب ونتيجتها ربما تكون مأساوية..

صحيح هي تعتاد الجنس لاحقا وتُعجَب به، بل وتعشقه خصوصا لو كان شريكها من مجيدي فنون الجنس وطرق إمتاع المرأة روحيا ونفسيا وجنسيا، هنا تعتقد المرأة أن ممارستها للجنس ليس مجرد أداء لدور وظيفي أو روتيني..بل شراكة حميمية فائقة الروعة والشعور الجيد الذي يغير حياتها للأفضل تكون فيها متساوية القيمة والدرجة مع شريكها، وتختفي علامات الخوف تماما بعد أن تملكها ذلك الرعب في البداية، ويصبح لقائها الجنسي مع الشريك لاحقا ليس مجرد لقاء ولكنه "عيد بمعنى الكلمة"



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة