وداعا نوال السعداوي... يا امرأة قدّت من نور الحياة ونار التحدّي

هاجر منصوري
hajermansouri4@gmail.com

2021 / 3 / 24

من اليسير أن تنقر على محرّك البحث " قوقل" حتّى ترد عليك من هذا الفضاء السيبروني بشبكاته التفاعليّة المختلفة معلومات كافية، شافية وضافية وحتّى متضاربة عن نوال بنت زينب السيّد، زخم من المعطيات لا حدّ لها عن حياتها، مسيرتها، رواياتها وكلّ كتبها، محاضراتها، لقاءاتها، ومحاكماتها... فيض من القراءات عنها والحوارات معها والفديوهات المسجّلة بخصوصها ممّا لا حصر له بين من ينوّه بفكرها فيراها قبسا نورانيّا ومن يندّد بها فيعِدها بنار تصلاها. ولكن من العسير أن يتأنّى الواحد/ة منّا في متابعة هذا الزخم بما فيه من صوت وصورة وكتابة، وخاصّة في قراءة ما تكتبه. وحينما يتيسّر له/ها ذلك ستتكشّف له/ها حياة امرأة حاولت على مدار سنينها أن تفكّر، وجريرتها الكبرى أنّها لم تلزم الصّمت ولم تخف من المواجهة ولأنّها كذلك وأكثر فقد حفرت في تاريخ الأديان والإنسان ورفعت عنه الأتربة المتناثرة على عيوننا وعقولنا وذاكرتنا إلى الحدّ الذي أصاب عينها بعض هذه الأتربة وهي التي لم تكفّ عن الاطلاع والقراءة وهذا حال مفكرينا/ مفكّراتنا يحترقون/ن لكي يضيئوا/ يضئن قلوبنا وعقولنا. فمتى نشأ هذا القبس في ابنة زينب السيّد؟
نقطة البداية وقبس النور، بعد ستّ سنوات من ولادة نوال سنة 1931، وصمت العادات على جسدها ختانها القهريّ. ومنذ هذه السنّ وهذا الحدث وحتّى قبله فيما ترويه نوال نفسها وهي الطفلة الثانية من بين عدّة أطفال، بدأت تلاحظ البنت الصغيرة التمييز بينها وبين أخيها في عائلتها المحافظة بقرية كفر طحلة، وشرعت تسأل وتتساءل عن الله والوجود.. وشاءت الظّروف ألاّ تهدر قوّة ملاحظتها وكثرة أسئلتها عمّا هو محظور بل أن تصقل وتهذّب بالتعليم الذي أصرّ والدها على توزيعه بالتساوي بين أبنائه جميعهم وهو المسؤول الحكوميّ في وزارة التربية والتعليم آنذاك. وهذا الأب ذاته أورثها عزّة النفس واحترام الذّات وحقّ التعبير عن الرأي بحريّة، فهو من الذين ثاروا ضد الاحتلال البريطاني لمصر والسودان، وشارك في ثورة 1919 وبسببها تمّ نقله من قريته وحرمانه من الترقية لمدة طويلة. ومن المؤكّد أن تستمدّ منه ابنته كلّ هذه القيم...
ولقبس النور مساربه في الدّراسة والعمل، إذ واصلت الفتاة الشغوف بالعلم والمعرفة دراستها الجامعيّة وتخرّجت سنة 1955 من كلية الطبّ جامعة القاهرة. وحصلت على بكالوريوس الطبّ والجراحة. وتخصّصت في مجال الأمراض الصدريّة. ثمّ انتقلت إلى الولايات المتّحدة الأمريكية لتنال درجة الماجستير في علوم الصحّة من جامعة كولومبيا سنة 1966. بدأت حياتها المهنيّة كطبيبة صدريّة في مستشفى القصر العيني، وبعدها أخذت تهتمّ بالطب النفسي. وعاينت أثناء عملها في كفر طحلة الصعوبات والتمييز الذي تواجهه المرأة الريفيّة هناك. حتّى أنّها حاولت الدفاع عن إحدى مرضاها ممّن تتعرّضن للعنف الأسري، فنُقلت جرّاء ذلك إلى القاهرة. وهناك تقلّبت بين مناصب عديدة، منها منصب المدير المسؤول عن الصحة العامة في وزارة الصحة، والمدير العام لإدارة التثقيف الصحّي، والأمين العام لنقابة الأطبّاء. وعملت لفترة رئيسة تحرير مجلة الصّحة، ومحرّرة في مجلّة الجمعيّة الطبيّة. ونالت عضويّة المجلس الأعلى للفنون والعلوم الاجتماعيّة بالقاهرة. وأسّست جمعيّة التربية الصحيّة. واهتمّت لمدّة ثلاثة سنوات بين 1973و1976 بدراسة شؤون المرأة ومرض العصاب في كلية الطب بجامعة عين شمس، وعملت لسنة واحدة بين 1979 و1980 مستشارةً للأمم المتّحدة في برنامج المرأة في إفريقيا وفي الشرق الأوسط.
ولقبس النور فيضه الفكري ومساره في الكتابة والحراك المجتمعي، فقد انجذبت هذه الشابّة التوّاقة إلى الكشف والاكتشاف إلى الكتابة انجذابا مبكّرا وواعيا. كتبت دفاعا عن إنسانيّة الإنسان عامّة، والمرأة خاصّة، كتبت عن الأوطان وحريّتها في تقرير مصيرها من ربقة دعاة التديّن أوّلا وسياسة الزعيم الواحد والأوحد ثانيا والرّأسماليّة الاقتصاديّة المعولمة والمتوحّشة ثالثا. فكان لهذا القبس فيض من الأنوار تتجاوز الخمسين نورا بمقدار كلّ كتاب من الكتب التي ألفتها في القصص والروايات والمسرحيّات والنقد الخطابات السياسيّة والدّينيّة. وسنذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ـمجموعتها القصصيّة الأولى « تعلّمت الحّب» سنة 1957، وروايتها« مذكّرات طبيبة» سنة 1958، و«الأنثى هي الأصل» 1971، و«المرأة والجنس»، 1972،« الرجل والجنس» 1973،« المرأة والصراع النفسى» 1975، و« مذكراتي في سجن النساء» 1982، و«سقوط الإمام» 1987، « موت معالي الوزير أوّلا» 1988، و« توأم السلطة والجنس» 1999، و«أوراق... حياتي» بأجزائه الثلاثة 2000، و« الإله يقدّم استقالته في اجتماع القمة» 2006، و«زينة» "2009"، وغيرها من الكتب .... إنّها فيض فكر يفضح جميع أنواع العنف المادي والرّمزي المسلّطين على المرأة خاصّة والإنسان عامّة باسم الأعراف الاجتماعيّة والخطابين الدّيني والسياسي. عنف ينتهك جسد المرأة ويغتال عقلها ويقوّض روحها وفكرها بمفاهيم الختان والحجاب المادّي والمعنوي والقوامة الاجتماعيّة والماديّة والنقص العقلي والجسدي...
ولم تكن هذه الشابة التي تدلف إلى الكهولة ومن ثمّت إلى الشيخوخة أن تنفصل عن حراكها المجتمعي، بل هي التي تؤسّس له في أحايين كثيرة وخاصّة فيما يتّصل بالحراك النسوي. فقد ساهمت في تأسيس مجلة نسويّة تسمى «المواجهة» سنة 1981، وجمعيّة تضامن المرأة العربية عام 1982. وساعدت في إنشاء المؤسّسة العربية لحقوق الإنسان. ولأنّ نورها حاصرته الظّلمات، فقد اضطرّت لأجل المحافظة على جذوته أن تغادر مصر منذ سنة 1988. وخارج موطنها درّست في أرقى الجامعات العالميّة من قبيل جامعة ديوك وقسم اللغات الأفريقية في كارولاينا الشمالية وأيضا جامعة واشنطن. وشغلت مراكز مرموقة في الحياة الأكاديمية هناك سواء في جامعة هارفرد، وييل، وكولومبيا، والسوربون، وجورج تاون، وفلوريدا وكاليفورنيا. وبنفس الجذوة رجعت المسنّة ذات القلب الطفولي والعقل الثّاقب الناقد إلى مصر سنة 1996. وأكملت نشاطها. فكانت من ضمن المتظاهرين/ات في ميدان التحرير في ثورة جانفي / يناير عام 2011. ولمن أدرك من الأوساط الثقافيّة والعالميّة هذا النور فيها سعى إلى توسيمها، إذ أحرزت ثلاث جوائز فخرية من ثلاث قارات: جائزة الشمال والجنوب من مجلس أوروبا سنة 2004، وجائزة إينانا الدوليّة من بلجيكا سنة 2005، وجائزة شون مأكبرايد للسلام من المكتب الدولي للسلام في سويسرا سنة 2012. وعلى مدار هذه السنوات من العمل والكتابة والفعل لم تخل من حضورها في شبكات التواصل الإعلامي بوسائله التقليديّة أو الجديدة لتعبّر عن آرائها، ولها في ذلك حلقات أكثر من أن تحصى أو تعدّ. صرّحت فيها بآرائها في الخطاب الدّيني وضرورة تجديده، في الحراك النسوي والسير به قدما نحو المساواة المطلقة بين الجنسين، في الدعوة إلى قبول الآخر المختلف عنّا جنسا وعرقا ودينا.. وصوّبت كلّ اجتثاث في خطاباتها ودعت بإلحاح إلى ضرورة قراءة كتبها قبل إدانتها، وكشفت مخاتلة محاوريها/ ومحاوراتها أمام توجيه الحوار معها نحو مربّع المزايدات والمحاكمات، وبدت في أغلب حواراتها أعمق ممّن يحاورونها من الرجال والنساء.
يا امرأة النور من أين أتتك النار وحال لسان البعض أنّك بنت الشيطان؟ نال بنت زينب السيّد ضيم كبير، لأنّ معظم القوّامين في الشعوب العربيّة عن الدّنيا والدين والسياسة تجهرهم بصيرتها، يجهر بصائرهم نورها الرفّاف والكاشف لجميع مغالطاتهم. فرموها بنارهم وتحدّتهم بنفس النار وإن كانت نارها من التحدّي ونارهم من مستنقع التردّي الذين هم فيه يزيدون ويتزايدون. فمنذ سنة 1968 تاريخ نشر أوّل أعمالها النقديّة والموسوم بــ« المرأة والجنس» إلاّ وأثار هذا المؤلّف حفيظة هؤلاء القوامين وخاصّة من رجال الأزهر آنذاك. وكان لهذا الكتاب أثره في فصلها سنة 1972 عن مركزها بوزارة الصحة، وعن رئاسة تحرير مجلّة الصحّة بالوزارة ذاتها وعن أمانة المساعدين في نقابة الأطباء. ولم يبلغ الأمر هذا الحدّ بل تواصل إلى درجة السجن، فحينما انتقدت حكم الحزب الواحد للرئيس أنور السادات ايمانا منها بحريّة التعبير، اعتقلت وسجنت سنة1981. ولم يطلق سراحها إلاّ بعد شهر من اغتيال الرئيس. وبعد السجن تهافت عليها الإسلاميّون من كلّ صوب وحدب بالثّلب والتجريح وتهييج الرّأي العام ضدّها. فهذا أحد المحامين يرفع دعوى ضدّها بإسقاط الجنسيّة عنها بسبب آرائها، وآخرون يرفعون أيضا قضايا ضدّها مثل قضية الحسبة للتفريق بينها وبين زوجها، وتهمة «ازدراء الأديان». وقد كسبت جميع القضايا المرفوعة ضدّها إلاّ قضيّتها الإنسانيّة والوجوديّة مع أصحاب التيّارات الإسلاميّة فقد وضعوها في قائمة تحت مسمّيات ابتدعوها «قائمة الكفر»، «قائمة الموت» وغيرها ولكن غاب عنهم أنّ الكفر بسلطتهم الترهيبيّة ومغالطاتها التاريخيّة هو عين الحياة للمفكّر بعد مماته.
هذه نوال السعداوي باختصار العبارة في مسار حياتها، فارقتنا يوم الأحد 21 مارس 2021، وقد قفلت 90 سنة، بعد حياة حافلة من نور يفيض به خاطرها عملا وفكرا وحراكا ونارا تحدّت بها كلّ من ألقمها إيّاها ليلجم عقلها عن التفكير وصوتها عن التغريد. حياتها- رحمها الله- عميقة، جديرة بألاّ يعيشها إلّا من أصرّ على التحدّي والمواجهة.. بكلّ هذا الزخم والفيض والمحن، لا يسعني إلاّ أن أنطق من وحي ما نظمته الجازية عن قيمة الرّجولة في مجتمعها الأبوي آنذاك وهي تخاطب في مجلس القبيلة أخاها السّلطان حسن الهلالي بو علي، فتقول: « ثلاثة من الرجال يا هلال يستاهلوا البكا. وعليهم تنقّ العين يغرد نحيبها: الأوّل من يعرّض راسه للبلا ويطفي نار سامر لهيبها، والثاني منهم إليّ يفرح للخاطر إليا لفي في سنين الشدّة والشحايح منين الرجال شربه من القربة يكيدها، والثالث منهم خفيف النّفس فصيح اللّسان اللّي ياخذ حقّه وحقّ من يريدها. وباقيهم يا هلال غير بصّ على العمى جيّابات ذراري حرازّات نسا كثّارات رموز وكّلات مثاريد عصيدها لا يستاهلوا لا حزن ولا بكا». أقول الأمر ذاته في مجتمعاتنا التي نودّ أن تكون إنسانيّة وأن يكون للنساء موطن قدم وفكر ورأي فيها وأن تعلى المروءة فيهنّ - والمروءة مصدر للمرأة كما الرجولة مصدر للرّجل- ومن تكتسب هذه القيمة هي التي تستحقّ رثاءنا: فالعين لا تدمع ولا تسيل مآقيها مدرارا، لمن رضيت من النساء العبوديّة في المصير، واجترّت قول الأوّلين، ولانت للعادات والأعراف كلّ لين، وخطّت على جسدها وصم الخوف والعار.. ولكنّ العين تدمع حدّ المهجة وشغاف الروح لمن نذرت صوتها للحياة وحرفها لفضح الكهنوت وقيم الرياء، لمن رفضت في زمن يعزّ فيه قول لا، فلم تكسب المال قناطيرا وأطنانا، وإنّما كسبت عقلا ثاقبا ينير دروب النساء والرجال ليلا نهارا... وإن مضت نوال السعداوي لحال سبيلها، فلها كلّ الأثر فينا.. عاشت عزيزة وماتت عزيزة ووهبت لنفسها حياة أخرى في وعينا ووجداننا ومن نورها ولهيب نارها تنبثق حيوات جديدة...فالخلود كلّ الخلود لمن قدّت روحها من ماء الحياة ونار التحدّي.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة