خارج الظل: البلشفيات والاشتراكية الروسية

جودي كوكس

2021 / 8 / 15

عام ١٩٢٢، لاحظت الصحافية الراديكالية الرائعة لويز براينت أن لينين استمد قوة عظيمة من النساء المقربات منه.(١) تتناقض ملاحظتها بشكل كبير مع لينين “الاستغلالي” بحسب الدراسات التاريخية والسير الذاتية عنه. في هذه الكتب، لم تكن النساء المقربات من لينين مصدر قوة له، إنما مجرد شخصيات ضئيلة خاضعات له، واقفات في ظل لينين. تتضخم جميع جوانب علاقتهن بلينين، في الوقت تتقلص أفعالهن المستقلة إلى مجرد إهمال سياسي. النساء اللواتي يتحدثن عدة لغات، تولين الترجمة، والنشر وتوزيع المؤلفات السياسية المهمة جداً، وتنظيم المؤتمرات، والإضرابات الجماهيرية وحركات التمرد، أقصين [في هذه الكتب] إلى مجرد مجاز جنسي. وهكذا، فإن أخت لينين الكبرى، آنا أوليانوفا، هي “زوجة متطلبة”، وأخته الصغرى، ماريا، “عانسة مخيفة”.(٢) زوجة لينين، ناديا كروبسكايا، هي امرأة “إن كان لحياتها معنى فهي فقط لأنها متزوجة”.(٣) إينيسا أرماند هي مجرد “عشيقة لينين”.

والأكثر خبثاً من ذلك هو التحيز الجندري الواضح عبر التصوير المتعمد للينين كمتلاعب بالنساء؛ حيث الأخيرات لسن مكرسات للثورة إنما للينين الرجل. تعبّر المؤرخة هيلين رابابورت عن هذا الرأي بإيجاز:

لقد استغل لينين النساء في حياته من دون رحمة. زوجته، ناديا كروبسكايا، ووالدته ماريا، ووالدة زوجته يليزافيتا، وشقيقتاه آنا وماريا أوليانوفا، وعشيقته لبعض الوقت إينيسا أرماند، كن خاضعات لمصالحه السياسية.(٤)

“الغايات السياسية” متعلقة بلينين على وجه التحديد. في مقال حديث، تصف جودي دين ذكريات كروبسكايا عن لينين بأنها “بطة غريبة” لأنها، بدلاً من خوضها غمار الرومانسية والجنس، كتبت كروبسكايا عن بناء منظمة اشتراكية. فالرجال ينظمون، والنساء يعشقن.(٥)

لقد أنقذت مجموعة من الدراسات الجادة والمنوّه بها لينين من اتهامه بالنخبوية السياسية وأعادت رؤيته للتنظيم الثوري المرتبط عضويا بالنضال الذاتي للطبقة العاملة.(٦) هذه الورقة ستتبع نفس الطريقة للنساء اللواتي ساعدن في صياغة وتنفيذ استراتيجيات لينين السياسية. لن تقدم هذه الورقة وصفاً شاملاً لآراء لينين حول تحرر النساء. بدلاً من ذلك، ستستكشف تفاعل النضال الذاتي للعاملات مع شبكة مؤثرة كانت موجودة داخل الحزب البلشفي. بنت آلاف الاشتراكيات منظمات اشتراكية وحافظت عليها بتكلفة شخصية كبيرة، توافق لينين مع العديد منهن. وهذا شمل القائدات البلشفيات الكبيرات مثل إيلينا ستاسوفا وروزاليا زيملياتشكا وأبوليناريا ياكوبوفا، اللواتي عملن بشكل وثيق مع لينين وكروبسكايا في سان بطرسبرغ ولندن. ينبغي إعادة كتابة تاريخ كل هؤلاء النساء في تاريخ الاشتراكية الروسية. تركز هذه الورقة على آنا وماريا أوليانوفا وإينيسا أرماند وألكسندرا كولونتاي، لأنهن تولين زمام المبادرة في اللحظات الحاسمة لدفع الحزب البلشفي باتجاه العاملات والثورة الاشتراكية. كانت قيادة لينين حاسمة لانتصار ثورة أكتوبر، ولكن كذلك إبداع وشجاعة والتزام النساء اللواتي شاركن مشروعه السياسي إلى حد كبير.

كانت شقيقتا لينين، آنا وماريا أوليانوفا، نشيطتين في الحركة الاشتراكية الروسية منذ الـ١٨٨٠ات وحتى وفاتهما في الـ١٩٣٠ات. في بعض الأحيان عاشتا مع أخيهما، وفي أحيان أخرى، أقامتا على بعد مئات الأميال. انضمت كروبسكايا إليهما عندما التقت بلينين في الوسط الراديكالي في سان بطرسبرغ في الـ١٨٩٠ات. انضمت إينيسا أرماند إلى الحركة الاشتراكية عام ١٩٠٣، وكانت مناضلة متمرسة قضت عقوبتين سجنيتين قبل أن تصبح مقربة من لينين وكروبسكايا في المنفى عام ١٩٠٩.

انضمت ألكسندرا كولونتاي إلى البلاشفة عندما شكلوا منظمتهم المستقلة عام ١٩٠٣، على الرغم من أنها غادرت التنظيم بعد ثلاث سنوات لخلافها معهم حول الدوما، البرلمان الروسي القيصري. وأصبحت خطيبة وكاتبة ومنظمة تحظى باحترام كبير قبل أن تنضم إلى البلاشفة عام ١٩١٤، وانتخبت عضوة في اللجنة المركزية في تموز/يوليو ١٩١٧.

أنقذت الحياة السياسية وجزء كبير من كتابات كولونتاي بفضل جهود المؤرخة كاتي بورتر. ولكن، أبعدت آنا وماريا أوليانوفا من التاريخ الاشتراكي. احتفظت إينيسا أرماند بمكانتها المرتبطة بعلاقتها بلينين. تهميش الاشتراكيات هو تشويه كبير للواقع التاريخي. كان دور النساء مركزيا في الاشتراكية الروسية منذ ولادتها في الـ ١٨٦٠ات في عهد القيصر ألكسندر الثاني وحتى دمارها على يد ستالين في أواخر الـ١٩٢٠ات. خلال هذه السنوات الستين، أنشأ البلاشفة حركة لم تغفل من برنامجها منذ ذلك الوقت التحرر الكامل للنساء.

من أكثر الروايات تأثيراً بالمناضلات، وعلى بدايات الاشتراكية الروسية بشكل عام، كانت رواية ما العمل؟ للكاتب نيكولاي تشيرنيشيفسكي الصادرة عام ١٨٦٢. كتبها داخل أسوار قلعة بطرس وبولس في سان بطرسبرغ، حيث أمضى الكاتب عقوبة سجنية بلغت ٨ سنوات قبل نفيه إلى سيبريا، حيث توفي عن عمر يناهز الـ ٦١ عاماً. (٧) تراسل كارل ماركس مع تشيرنيشيفسكي، ووصف فريدريك إنغلز كتابه بأنه “تجاوز إلى حد كبير أي شيء كتب… في ألمانيا وفرنسا عن التاريخ الرسمي”.(٨) كشف كتاب ما العمل؟ العبء الذي يفرضه الزواج الأبوي على النساء، كما دافع عن أساليب حياة مجتمعية قائمة على المساواة. فأصبح بذلك النص التأسيسي للاشتراكية الروسية وساهم في تثوير العديد من الشباب والشابات الروسي/ات من بينهم ناديا كروبسكايا وآنا وماريا أوليانوفا وشقيقهما لينين.(٩) أطلق لينين على كتابه الرئيسي والصادر عام ١٩٠٢، عنوان رواية تشيرنيشيفسكي ما العمل؟. تذكرت كروبسكايا تأثير الرواية على إينيسا أرماند: “انتقلت أرماند إلى الاشتراكية جراء وضعية حقوق النساء وحرياتهن في كتاب ما العمل؟. في الواقع، تأثرت أجيال كاملة من الثوريين الروس برواية تشيرنيشيفسكي اليوتوبية في جوانبها المتعددة ودفعهم إلى تقليد “رجال ونساء غير مألوفين/ات”.(١٠)

قدمت الاشتراكية الروسية الكثير من الأفكار حول “مسألة المرأة” مقارنة مع الاشتراكية الأوروبية. بعد تعرضهن للنكبة التي أطاحت بثورة ١٨٤٨، كانت النساء الفرنسيات بدأن في التنظم ضمن مجموعات صغيرة لإعادة إحياء الحملات من أجل تحررهن. في بريطانيا عام ١٨٦٦، وقعت ١٥٠٠ امرأة عريضة من أجل حق النساء بالتصويت. بدأت في فرنسا مجموعة صغيرة من النساء بالالتقاء في منزل أندريه ليو بهدف مناقشة الأفكار النسوية. في روسيا، كانت الصبايا تتعرف على أفكار تشيرنيشيفسكي في المنظمات الإرهابية الساعية إلى إسقاط القيصرية من خلال انتهاجها مزيجاً من النضالات القائمة على الاغتيال السياسي والانتفاضات الفلاحية. شاركت امرأتان، صوفيا بيروفيسكايا وفيرا فيغنر في اغتيال القيصر ألكسندر الثاني يوم ١٣ آذار/مارس ١٨٨١. سجنت فيغنر لمدة ٢٠ عاماً، أما بيروفيسكايا البالغ عمرها ٢٧ عاماً فكانت أول امرأة روسية تعدم بتهمة الإرهاب. بعد ثورة فبراير عام ١٩١٧، كانت فيغنر في صلب الحملة النسائية من أجل حق النساء بالتصويت واعتُرف بدورها الكبير في التراث الثوري.(١١) إذا كانت التضحية والشجاعة كافيتين، لكانت هاتان الامرأتان قد أسقطتا القيصرية قبل عام ١٩١٧ بكثير. لقد فشلتا في تحقيق ذلك، لكنهما شكلتا مصدر إلهام لأجيال جديدة، من بينهن ألكسندرا كولونتاي التي استعانت بخبرات فيغنر في لجنة الشعب للضمان الاجتماعي.(١٢)

الاشتراكية تبدأ في البيت

ترسخ سير لينين الذاتية الأسطورة القائلة بأن “الأمهات” تحركهن اهتمامات شخصية بحتة تجاه أولادهن وأنهن بالتالي غير قادرات على التفكير السياسي. بعد وفاة زوجها عام ١٨٨٦، قامت والدة لينين، ماريا ألكساندروفنا، بإعالة أسرتها ومنحت بناتها نفس الفرص التعليمية التي حظي بها أولادها الذكور. دافعت عن أطفالها أمام الشرطة ورافقتهم/ن في المنفى ودعمت نضالهم/ن الثوري. تظهر رسائل لينين أن والدته لم تدعمه مالياً فقط، إنما تلقت مقالاته المنشورة في الخارج ونقلتها إلى ناشرين يعملون في الخفاء. المحاكمة الكبرى التي عانت خلالها كانت تلك التي نتج عنها إعدام ابنها الأكبر ألكسندر في ٨ أيار/مايو ١٨٨٧. ألكسندر وآنا، كبيرا أولادها، كانا قد باتا طالبين ثوريين في سان بطرسبرغ. وقد اعتقلا سويةً لمحاولتهما اغتيال القيصر ألكسندر الثالث، على الرغم من أن آنا لم تكن منخرطة في تلك المحاولة. وقد حكم عليها بالنفي لمدة ٥ سنوات في سيبيريا، وقد سمح لها بتأديتها في المنزل. في الكتب التاريخية الذاتية السوفياتية غيّر الأخوان ألكسندر وفلاديمير حياة شقيقتهما آنا: “ألكسندر جعل منها ثورية، أما فلاديمير فصنع منها ماركسية”.(١٣) آنا كانت قد أصبحت ثورية سنوات قبل أخيها الأصغر.

والدة ناديا كروبسكايا، يليزافيتا كروبسكايا، وصفت أنها محافظة ومسيحية، ولكن كماريا، شجعت أولادها على مواجهة قمع النظام القيصري ودعمتهم حين اعتقلوا وسجنوا وتعرضوا للنفي. يليزافيتا ذهبت مع ابنتها إلى المنفى عندما حكمت بذلك عام ١٨٩٨. يعتقد أحد المؤرخين أن يليزافيتا قد رافقت ابنتها حتى لا تساكن لينين.(١٤) في حين كتب مؤرخ آخر أن لينين كان “سعيداً برفقة ناديا، ومن والدة زوجته”. في الواقع أن يليزافيتا قد اختارت مغادرة منزلها والعيش مع الثوار في جنيف، وباريس وبروكسل وغاليسيا ولندن. وكانت سعيدة برفقة الماركسيين، وفككت رموز مراسلات الحزب البلشفي وخاطت في الملابس مخابئ سرية لتهريب الوثائق.(١٥) عندما ماتت يليزافيتا، كتبت كروبسكايا: “كانت رفيقة مقربة، ساعدت في مختلف أشكال النضال… وقد أحبها الرفاق”.(١٦) أما بالنسبة إلى المؤرخين، فقد كانت حماة متطلبة ولم تكن مستقلة.

نحو العمل السري

ناضلت الحركة الثورية السرية بكثير من الخطر والمعاناة، ولكنها كذلك كانت مكاناً حيث حظيت النساء بالمساواة مع الرجل على الأقل على المستوى الرسمي.(١٧) وقد تساوى الطرفان في تعرضهم/ن للقمع والتعاطي معه خاصة من قبل الأوخرانا، الشرطة السرية للنظام القيصري. عام ١٩٠٠، هربت آنا أوليانوفا من الاعتقال نحو سويسرا.(١٨) في حين كانت ماريا أوليانوفا طالبة ثورية قبل أن تتجه إلى موسكو عام ١٨٩٨. وقد انضمت إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي والعمالي الروسي وخلال سنة باتت عاملة بأجر داخل الحزب.(١٩) وقد اعتقلت ماريا في تشرين الأول/أكتوبر ١٨٩٩ وأطلق سراحها، وأعيد اعتقالها مرة جديدة عام ١٩٠١ وقد حكم عليها بالنفي لمدة ٣ سنوات.

بين عامي ١٩٠١ و١٩٠٣، لعبت البلشفيات دوراً أساسياً في نشرة إيسكرا التي كانت أهم مجلة اشتراكية روسية لمدة ٥٠ عاماً. عملت آنا للمجلة في كل من باريس وبرلين.(٢٠) وبدأت ماريا بالعمل للإيسكرا في موسكو، وقد حصلت عليها مخبأة في أغلفة الكتب المرسلة من الخارج. عملت ناديا كروبسكايا في الإيسكرا إلى جانب الثورية فيرا زاسوليتش في مكاتب المجلة في كليركينويل غرين بلندن. أمضت زاسوليتش ٤ سنوات سجنية عام ١٨٦٩، وعند إطلاق سراحها حاولت إغتيال الكولونيل الرجعي الروسي فيودور تريبوف وأصابته بجروح بليغة. تسببت تبرئة هيئة المحلفين لزاسوليتش بضجة كبيرة. عندما كانت متخفية في سويسرا، شاركت زاسوليتش بتأسيس مجموعة تحرر العمال، سلف الحزب الاشتراكي الديمقراطي والعمالي الروسي، وانضمت إلى هيئة تحرير مجلة الإيسكرا.(٢١)

يصف كاتب سيرة كروبسكايا، روبرت ماكنيل، كيف أن كروبسكايا باعتبارها أمينة سر مجموعة إيسكرا: “كان واضحاً أنها عملت تحت إشراف لينين المباشر، ولا فائدة من محاولة تضخيم دورها المستقل”.(٢٢) أما لويز براينت، التي كانت شاهدة معاصرة، فقد كان لها وجهة نظر أكثر إيجابية عن مساهمة كروبسكايا، مشيرة إلى أنها: “لم تكن فقط مسؤولة عن نشر صحيفة، إنما قامت بنضالات حزبية واسعة النطاق. في فترة من الفترات كانت تتواصل مع كل ثوري في روسيا”.(٢٣) اعترفت براينت بسلطة وتأثير كروبسكايا. لكن المؤرخين اللاحقين يفترضون أنها كانت غير قادرة على التفكير والعمل المستقلَين.

تمكنت ناديا كروبسكايا من تأريخ مشاركتها في حلقات النقاش الماركسية عام ١٨٨٩. وتذكرت لاحقاً عبارات كتاب رأس المال لكارل ماركس التي تسببت بـ”خفقان قلبها حين سمعتها”. “ناقوس الملكية الخاصة الرأسمالية يقرع. تم الاستيلاء عليها عن طريق المصادرة”.(٢٤) عام ١٨٩٠، راجعت كروبسكايا كتاب إنجلز أصول الملكية الخاصة والعائلة والدولة، والمجلد الأول من كتاب رأس المال لماركس لمجموعة المناقشة الخاصة في سان بطرسبرغ.(٢٥) لمدة خمس سنوات، درّست عمالا في المدارس الليلية ومدارس الأحد.(٢٦) وعندما قابلت لينين لأول مرة في خريف عام ١٨٩٤، كانت مرشدته إلى أوساط الطبقة العاملة في المدينة.

عام ١٨٩٦، نظم إضراب مهم في قطاع النسيج، بقيادة العاملات فيه.(٢٧) فنظمت كروبسكايا وكولونتاي نضالات دعائية اشتراكية تضامنية مع المضربات. هرّبت كولونتاي منشورات الإضراب إلى المصانع وتأثرت بعمق بالطريقة التي تحولت فيها حياة المضربات. فكتبت أن المرأة العاملة “المضطهدة والخجولة والمجردة من الحقوق، هبّت بكل ثقة وباتت متساوية كمناضلة ورفيقة”.(٢٨) لم يتبنَ الاشتراكيون الذكور هذا التحول بشكل تلقائي. فقد أشارت كروبسكايا إلى أن نضالاتها أعيقت من الرجال الذين اعتقدوا أن النساء غير قادرات على النضال.(٢٩) وبحسب كروبسكايا، دعم لينين نضالها بين نساء سان بطرسبرغ، وكان لينين هو الذي أصر على أن تتضمن مسودة برنامج الحزب عام ١٩٠٣ المطالبة بـ”المساواة الكاملة في الحقوق بين الرجال والنساء”.(٣٠)

في شهر تشرين الأول/أكتوبر عام ١٨٩٦، ألقي القبض على كروبسكايا وأمضت ستة أشهر في السجن قبل أن يوفر ضغط والدتها الشديد إطلاق سراحها. بعد عام، منحت السلطات الروسية كروبسكايا الإذن بالانضمام إلى لينين، الذي كان منفياً في سيبيريا، بشرط أن يتزوجا. في المنفى، كتبت كروبسكايا كتيباً بعنوان المرأة العاملة. يقر كاتب سيرة حياتها بأن الكتيب يستحق “لحظة اهتمام” لأنه يوضح كيف اعتمدت كروبسكايا الماركسية تحت “وصاية لينين”.(٣١) لطالما أغفل المؤرخون كتيب المرأة العاملة، لكن من خاطبتهن كروبسكايا لم يفعلن ذلك. عندما نشرت الإيسكرا الكتيب عام ١٩٠١، أصبحت أول ماركسية روسية تكتب عن اضطهاد النساء وأول كتاب من بين كل اللغات كتبته امرأة عن هذا الموضوع.(٣٢) وأصبح الكتيب أساساً لمجموعات العاملات النقاشية، من بينها تلك التي نظمتها كولونتاي في سان بطرسبرغ عام ١٩٠٦.(٣٣) عام ١٩١٤، نظمت كولونتاي مؤتمراً دولياً للنساء وكتبت إلى كروبسكايا طالبة منها نسخة من كتيب “المرأة العاملة”.(٣٤) كان كتيب كروبسكايا أداة سياسية حاسمة بالنسبة إلى البلشفيات.(٣٥)

طوّر كتيب المرأة العاملة تحليل ماركس حول اضطهاد النساء بالإشارة إلى أن النساء عندما يكسبن أجرهن الخاص، حتى في أصعب الظروف، فإن ذلك يضعهن بموضع أفضل للنضال من أجل حقوقهن مما لو بقين معزولة في المنزل.(٣٦) وهكذا، ناقشت كروبسكايا، وحده النضال من أجل الاشتراكية هو الذي يقدم للنساء مستقبلاً مختلفاً. عام ١٩٠١، تاريخ نشر الكتيب، انضمت كروبسكايا إلى لينين في الخارج، وقضت مع والدتها يليزافيتا خمس سنوات لبناء المنظمة الاشتراكية بأفضل ما بإمكانهم/ن في ميونخ وباريس ولندن.

عام ١٩٠٣، انقسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى تكتلين، البلاشفة والمناشفة. كرست آنا وماريا أوليانوفا كل طاقتيهما لتعزيز المنظمة البلشفية داخل روسيا. كما انضمت كولونتاي إلى البلاشفة. ولدت كولونتاي في باريس عام ١٨٧٢ من أم فرنسية وأب روسي ونشأت في روسيا. عام ١٨٩٣ تزوجت من ابن عمها فلاديمير كولونتاي، وأنجبا صبياً. تركت زوجها بعد ثلاث سنوات على زواجها وبدأت بالدراسة في جامعة زوريخ، حيث انضمت إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي عام ١٨٩٩. من بين المؤلفات العديدة المهمة لكولونتاي دراسة عن النضال الفنلندي من أجل الاستقلال، نشرت عام ١٩٠٣، عنوانها فنلندا والاشتراكية، حيث استندت إلى تجربتها في المنفى ودعت إلى الانتفاضة المسلحة ضد الامبراطورية الروسية.

إينيسا أرماند(٣٧) كانت رفيقة اشتراكية أخرى مع البلاشفة انضمت حديثاً إلى المنظمة الثورية. ولدت أرماند في باريس عام ١٨٧٤. في سن الـ ١٩، تزوجت من ثري روسي، ألكسندر أرماند، وأنجبا ٤ أولاد. بعد ذلك، تركت أرماند ألكسندر عام ١٩٠٢ وأقامت في منزل شقيقه الأصغر، فلاديمير، الذي كان ثورياً وأنجبت منه ولداً. استمرت صداقة أرماند الوثيقة مع ألكسندر. إن جرأة إينيسا أرماند والتزامها السياسي المذهل والثاقب خوّلها أن تصبح شخصية رائدة في الحركة الاشتراكية الأممية.

١٩٠٥: “الثورة مهرجان المضطهدين”

في ٢٢ كانون الثاني/يناير ١٩٠٥، خرج الآلاف من العمال الجائعين إلى شوارع سان بطرسبرغ لتقديم عريضة وقعها ١٥٠ ألف شخص إلى القيصر، حيث توسلوا فيها بكل احترام “الأب الصغير” الحصول على يوم عمل أقصر وأجر أعلى. قتلت القوات الحكومية المتظاهرين بدم بارد. المجزرة، المعروفة باسم الأحد الدامي، أثارت الغضب مشعلة إضراباً جماهيرياً وحركة تمردية انتشرت بسرعة البرق في جميع أنحاء الامبراطورية الروسية.

كانت كولونتاي واحدة من الشهود على المجزرة. خلال ثورة ١٩٠٥، شاركت كولونتاي في سوفيات سان بطرسبرغ. وناقشت بأن البلاشفة بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لتنظيم العدد المتزايد من العاملات المناضلات. فوزعت المنشورات البلشفية التي تطالب بالمساواة بالأجر للنساء على نطاق واسع.(٣٨)

كما شهدت آنا أوليانوفا الغضب العارم الذي انفجر يوم الأحد الدامي، الأمر الذي دفعها إلى الكتابة إلى لينين وكروبسكايا بأن الثورة التي طال انتظارها قد بدأت.(٣٩) وصلت ماريا أوليانوفا إلى سان بطرسبرغ في صيف عام ١٩٠٥ وانضمت إلى آنا في نضالها الكادّ مع البلاشفة، “الركض كالممسوسين”.(٤٠)

عادت كروبسكايا بسرعة من المنفى إلى سان بطرسبرغ للانضمام إلى الثورة وأصبحت أمينة سر اللجنة المركزية البلشفية وأشرفت على الشؤون المالية للحزب.(٤١) تضاعف عدد أعضاء الحزب البلشفي عدة مرات قبل أن تباشر الحكومة بحملة اعتقالات طالت قادة سوفيات سان بطرسبرغ وسحقت الانتفاضة في موسكو. حصلت كروبسكايا على جواز سفر مزور وتمكنت من البقاء في روسيا حتى صيف العام ١٩٠٦، لكنها اضطرت مع لينين في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى المنفى مع نهاية العام ١٩٠٧.

عام ١٩٠٥، كانت أرماند تعيش في موسكو حيث أدى الإضراب إلى شل الحركة في المدينة ومن ثم تطور إلى انتفاضة. كتبت إلى ألكسندر أرماند: “لدينا ما يشبه الثورة! هناك حركة غير اعتيادية. كل بطرسبرغ مضربة، حتى أن الجماهير بدأت بالخروج في موسكو”.(٤٢) اكتشفت مداهمة للشرطة نسخاً من الأدب الثوري ومسدساً في غرفة أرماند. فألقي القبض عليها، ولكن أطلق سراحها وهربت من البلاد.(٤٣)

اكتسبت كولونتاي والأخوات أوليانوف وأرماند خبرة مباشرة في قوة الثورة لتغيير المجتمع. أرّخت كولونتاي لبداية الحركة النسائية في روسيا مع بداية انتفاضة عام ١٩٠٥، عندما “خرجت النساء إلى العلن” في المصانع وشنت أعمال شغب الفلاحات في جميع أنحاء جنوبي روسيا.(٤٤) لاحظ لينين كيف أن الإضراب العام يحرّك مطلب التحرر الوطني من بين شعوب روسيا المضطهدة، كما لاحظت كولونتاي في دراستها عن فنلندا. كتب لينين:
الثورات هي احتفال المضطهدين والمستغلين. ليس في أي وقت تكون فيه الجماهير في موقع للمضي قدماً من أجل التغيير الاجتماعي إلا في وقت الثورة. في مثل هذا الوقت، يستطيع الناس اجتراح المعجزات.(٤٥)
لينين وماريا وآنا أوليانوفا وكولونتاي وأرماند وكروبسكايا، أظهروا جميعهم/ن بدقة الإمكانيات التي يطلقها المهمشون والمضطهدون في محاولتهم للتغيير الثوري للمجتمع.

النساء في المنفى

بعد القمع جاءت هزيمة ثورة ١٩٠٥. كان على الثوار العودة إلى المنفى والأمل بشن نضالات وحملات جديدة. دعت كولونتاي إلى النضال على جبهتين بعد عام ١٩٠٥: تحدي الحركات النسائية للطبقة الوسطى وتحدي الاشتراكيين الذين كانوا مترددين في معالجة ما اعتبروه “قضايا نسائية”. فأجبرت على مغادرة روسيا هرباً من الاعتقال عام ١٩٠٨، واتجهت إلى ألمانيا وباتت ناشطة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وأقامت صلات حيوية مع روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت.(٤٦) وأصبح كتاب كولونتاي الأساس الاجتماعي لمسألة المرأة أساساً للصداقة مع الاشتراكية الألمانية العظيمة كلارا زيتكين. عام ١٩٠٩، انضمت كولونتاي وزيتكين في زيارة للمناضلة من أجل حق الاقتراع والعضوة اللاحقة في الحزب الشيوعي دورا مونتيفيوري في لندن، حيث شاركن في مظاهرة من ٥٠ ألف شخص بمناسبة عيد العمال. زارت كولونتاي لندن في خريف العام ١٩١٣، حيث تحدثت في عدة مسيرات نظمت احتجاجاً على محاكمة يهودي روسي، مناحيم بيليس، في كييف. كان بيليس قد اتهم ظلماً بتنظيم طقوس قتل أطفال وكان في صلب حملة شرسة معادية للسامية شنتها الدولة مثيلة لقضيلة دريفوس في فرنسا.(٤٧)

في تشرين الثاني عام ١٩٠٨، حين كانت آنا أوليانوفا في موسكو كتبت إلى لينين ملاحظاتها حول كتابه، المادية والمذهب النقدي التجريبي. تضمنت رسالتها الاقتراح التالي: “من الضروري تخفيف وتجنب بعض التهجمات. حقا، فلاديمير، أنت تكتب الكثير منها”.(٤٨) وقد وافق لينين على بعض ملاحظات آنا، وبعد طبع الكتاب أخذت ٥٠ نسخة من الكتب إلى أصدقائها في موسكو.(٤٩) نفيت آنا وماريا أوليانوفا داخل البلاد في مدينة ساراتوف، حيث كانتا أساسيتين في بناء المنظمة البلشفية حتى اعتقلتا عقب مداهمة للشرطة يوم ٧ أيار/مايو ١٩١٢. سرعان ما أطلق سراح آنا لكن ماريا أبعدت إلى فولوغدا. هناك نظمت إضرابات احتجاجاً على مجزرة لينا، التي قتل الجيش الروسي فيها ٥٠٠ عامل مضرب في مناجم الذهب بسيبيريا، مجزرة باتت علامة فارقة بالنسبة إلى الحركة العمالية الروسية.

اعتقلت أرماند ٣ مرات عام ١٩٠٧ وأخيراً حكم عليها بالنفي داخل البلاد لمدة عامين. في كانون الثاني/يناير عام ١٩٠٩، هربت بهدف الانضمام إلى شريكها المريض، فلاديمير أرماند، في فرنسا، ولكنه توفي بعد أسبوعين من وصولها إليه. أقامت أرماند في باريس في منزل بالقرب من كروبسكايا ولينين. معرفتها للاستراتيجية السياسية وعدة لغات ساعداها لأن تكون اختياراً بديهياً كممثلة بلشفية لدى الحزب الاشتراكي الفرنسي.(٥٠) عام ١٩١١، انتخبت في لجنة المنظمات الخارجية، التي كانت تنسق بين المجموعات البلشفية المهاجرة ونضالاتها الثورية عبر القارة الأوروبية. عام ١٩١٢، عادت أرماند إلى روسيا لتنظيم حملة البلاشفة إلى انتخابات الدوما. في حين في سان بطرسبرغ، طورت اهتمامها بمسائل النساء العاملات. بين عامي ١٩٠١ و١٩١٤، نمت الطبقة العاملة في سان بطرسبرغ بنسبة ٣٧ بالمئة، و٦٤ بالمئة من تلك الزيادة كنّ من النساء. أهملت الحركة العمالية الروسية هؤلاء النساء باعتبار من الصعب تنظيمهنّ. لكن تزايد أعداد العاملات الملتزمات مع صحيفة البلاشفة، البرافدا (الحقيقة)، دفع بأرماند وكروبسكايا وبلشفية أخرى، كونكورديا سامويلوفا، للتخطيط لإصدار مجلة جديدة تستهدف العاملات.(٥١)

قبل اتمام الخطط، اعتقلت أرماند. ولكن جرى إطلاق سراحها بعد تدخل من زوجها، ألكسندر، وعادت إلى لينين وكروبسكايا. وقد فرض المؤرخون أحكامهم المسبقة حول جنسانية النساء في تلك العلاقات. فأخبرتنا هيلين رابابورت: “إينيسا كانت كل ما لم تكنه كروبسكايا. كانت جميلة ومتأنقة، وتتقن عدة لغات، كما كانت ترتدي على الموضة وفق الطريقة الفرنسية”. في حين كانت كروبسكايا قد بلغ عمرها الـ ٤١ وبدأت “تفقد رونقها”، في حين كانت أرماند، التي تصغرها بـ ٤ سنوات فقط، في “عزها”.(٥٢) وحدهم المقربون يعلمون بطبيعة تلك العلاقات، ولكن يمكننا التأكد من طبيعة المراسلات أن أرماند ولينين وكروبسكايا حافظوا/ن على صداقة مقربة.(٥٣) وكما لاحظت لويز براينت: “أحب لينين زوجته وتكلم عنها بكل لهفة”.(٥٤) مثلت أرماند لينين في مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي سمي بشكل تفاؤلي “مؤتمر الوحدة” حيث انعقد في بروكسيل عام ١٩١٤. كان البلاشفة يحظون بدعم متنامٍ في النقابات العمالية والانتخابات، ولكن بقية الأحزاب الاشتراكية كانت تسعى للحد من نفوذهم. اعتبر المؤرخون أن سفر أرماند هو دليل على أن لينين كان يتلاعب بها بسبب: “عدم رغبته بتلقي الهجمات من خصومه”.(٥٥) مثل هذه الكتابات فشلت في تقدير أن إينيسا لم تكن تسدي خدمة للينين إنما كانت كذلك ملتزمة في بناء منظمة البلاشفة كقوة مهيمنة على اليسار الروسي.

تنامي الحركة من أجل حق النساء بالانتخاب في العديد من الدول الأوروبية أدى إلى حصول نقاشات بين الاشتراكيين. في مؤتمر الاشتراكيين الأممي الذي انعقد في شتوتغارت عام ١٩٠٧، أراد الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي سحب دعمه لحق النساء بالانتخاب لضمان فوز الذكور في الانتخابات العامة. فردت عليه كل من كلارا زيتكين ولويز زيتز من ألمانيا وتمكنتا من دحض موقفه وأعادتا تأكيد التزام الاشتراكيين في النضال من أجل حق الانتخاب للجميع. وكتب لينين عن انتصارهما بكل حماسة، معتبراً أن سحب دعم نضال النساء من أجل حقهن بالانتخاب كان سيكون انحرافاً عن المبادئ الاشتراكية.(٥٦)

عام ١٩١٣، اقترحت الاشتراكية الألمانية كلارا زيتكين الاحتفال بيوم المرأة العالمي، باستلهام من إضرابات النساء وحملة حق النساء بالانتخاب. وقد تلقت دعماً من كولونتاي، التي لاحظت بكل إيجابية أن الأحزاب الاشتراكية قد بدأت تصبح أكثر وعياً لضرورة تنظيم حملات من أجل حق النساء بالانتخاب. كما شارك لينين في هذا الفهم المتنامي لاضطهاد النساء. وقد نشر مقالات تضيء على العمل المنزلي وتدافع عن الحق بالإجهاض واستعمال وسائل منع الحمل باعتبارها “أساسية، ومن الحقوق الديمقراطية للمواطنين/ات”.(٥٧) بعد ٨ سنوات، عام ١٩٢١، عاد لينين إلى تلك الموضوعات في مقال بمناسبة يوم المرأة العالمي، معتبرا أن النساء تعرضن للاضطهاد كعاملات بسبب حرمانهن من الحق بالمساواة وتعرضن للاضطهاد كنساء بسبب “الاستعباد المنزلي” الذي غيّر من حياتهنّ”.(٥٨)

وقد شجعت موجة الإضرابات العمالية في ربيع العام ١٩١٤ آنا أوليانوفا وكروبسكايا أرماند وكولونتاي وأخريات لإعادة إحياء خطط إصدار جريدة تستهدف العاملات، رابوتنيتسا (المرأة العاملة).(٥٩) أشار بعض الرفاق إلى أن الأموال ينبغي ألا تبذر على تلك المجلة، التي رأوها تقسيمية. على العكس منهم، طلب لينين من أرماند التحضير للنشر “بكل حماسة”.(٦٠) وجرى التحضير لإصدار العدد الأول في يوم المرأة العالمي في شهر آذار/مارس، لكن الشرطة اقتحمت الاجتماع واعتقلت كل مجلس التحرير. تمكنت آنا من الفرار لأنها تأخرت في الوصول إلى الاجتماع.(٦١) وكانت أغلب مقالات الجريدة قد أرسلت إلى المطبعة، فطلبت آنا أن يطبع منها ١٢ ألف نسخة حتى توزع.(٦٢) كما تمكنت من نشر ٧ أعداد جديدة بين شباط/فبراير وحزيران/يونيو عام ١٩١٤.(٦٣) كانت أمينة سر مجلس تحرير المجلة في سان بطرسبرغ نينا أغادانوفا، التي انضمت إلى البلاشفة عام ١٩٠٧، وعانت من نفي واعتقالات عديدة. عام ١٩١٧، إثر ثورة أكتوبر، تولت أغادانوفا عدة أدوار عسكرية وكتبت سيناريو فيلم معركة بوتيمكين مع المخرج سيرغي إيسينستين. في تلك السنوات السابقة للحرب بنى الحزب البلشفي جذوره في أوساط الطبقة العاملة ومدركاً الأهمية القصوى لإيلاء اهتمام بالنساء، ليس فقط كعاملات مستغلات إنما أيضاً كمضطهدات بسبب جندرهن. كان ذلك اعترافاً قاده بشكل أساسي أرماند وكولونتاي ولينين والمقربون منهم/ن.

من الحرب العالمية إلى الحرب الطبقية

آب/أغسطس ١٩١٤ كان كارثة على الحركة الاشتراكية الأممية. حزب تلو الآخر من أحزاب الأممية الثانية الاشتراكية تركت التزامها القديم المناهض للحرب، وغرقت في موجة من القومية وانتهت داعمة لحكومات بلادها. تركت كولونتاي ألمانيا احتجاجاً على انهزامية الحزب الاشتراكي الديمقراطي. رأى لينين في موقف الاشتراكيين الديمقراطيين المؤيد للحرب دليلا على صحة نموذج الحزب الثوري البلشفي الأممي عوضا عن أن تقتصر مواقفه على ردود أفعال تجاه قمع النظام القيصري الروسي. كتب لينين أن هدف البلاشفة هو في تحويل الحرب ما بين الامبرياليات إلى حرب أهلية ضد القيصرية وذلك في سلسلة من المقالات نشرت في أيلول/سبتمبر ١٩١٤. حين قرأتها كولونتاي انضمت إلى البلاشفة. كما شرحت فكرة البلاشفة القائلة أن العدو الرئيسي هو داخل البلد وقد بيع من كتيبها، من يحتاج إلى الحرب؟ أعداد هائلة بعد طبعه في صيف ١٩١٦ وقرأه ملايين الجنود الروس والألمان.(٦٤) بعد مرور ٨ أشهر فقط على بداية الحرب، في شهر آذار/مارس ١٩١٥، نظمت إينيسا أرماند مؤتمراً اشتراكياً أممياً للنساء في برن، سويسرا. وعلى الرغم من مشاركة ٢٩ ممثلةً، لكنه كان خطوة مهمة لإظهار معارضة اشتراكية واضحة ضد الحرب. هذا الموقف وجد تأييداً متزايداً نتيجة شجب المجازر الجماعية المرتكبة على الجبهات.

على الرغم من الانشغال بمعارضة الحرب، إلا أن الثوريين استمروا في تطويرهم النظري لفهمهم لاضطهاد النساء. عام ١٩١٥، اختلف لينين وأرماند حول كتيب اقترحت كتابته حول النساء. انتقد لينين دعمها لـ”الحب الحر”. وقد حاجج لينين أن العمال مهتمون بالحب المتحرر من الهموم المادية والمالية. وأن البرجوازية وحدها المهتمة بالحب الحر من الالتزام والحمل والشريك الواحد. في المقابل، اعتبرت أرماند أن العلاقات الجنسية العفوية قد تكون أكثر “شاعرية ونظافة” من قبلات جافة بين شخصين متزوجين. اعترض لينين واعتبر أن القبلات القصيرة قد تكون وسخة أو نظيفة وأن أرماند اختزلت العلاقات الجنسية إلى لقاءات عفوية دون أن تمركزها ضمن ديناميات طبقية. تعقيدات العلاقات، بحسب لينين، يجب استكشافها في رواية وليس في كتيب شعبي. لم تقتنع أرماند أو تتراجع عن موقفها، لكنها لم تنشر أبداً كتيباً عن النساء.

كما نشبت جدلية أخرى حين اعتبر اشتراكي أنه لا يمكن الدفاع عن حق النساء بالطلاق لأنهن فقيرات للغاية حتى يمارسن هذا الحق بتركهن لأزواجهن. أجاب لينين معتبراً أن “غياب مثل هذه الحرية هو عبء إضافي على الجندر المضطهد”. وقد اعترف أن النساء لا يمكنهن ممارسة حقوقهن الديمقراطية لأنهن معدومات اقتصادياً وهن “عبدات السرير، والعناية والمطبخ”.(٦٥) لكن لينين أصر على أن الاشتراكيين يجب أن يناضلوا من أجل الحقوق الديمقراطية لأنه “كلما زادت الحرية الكاملة في الطلاق، كلما توضح للمرأة إلى أن مصدر الشر ليس الحرمان من الحقوق إنما الرأسمالية نفسها”.(٦٦) على الرغم من الفظاعات والقمع والعزلة المفروضة بسبب الحرب، أوضح القادة البلاشفة مقاربتهم حيال أشكال اضطهاد النساء وتابعوا المطالبة في زيادة حقوق النساء ضمن النظام الرأسمالي.

من شباط/فبراير إلى تشرين الأول/أكتوبر

في ٢٣ شباط/فبراير ١٩١٧، عزمت العاملات في سان بطرسبرغ، بات اسمها الآن بتروغراد، على تنظيم مسيرة احتفالا بيوم المرأة العالمي. أشعلت مسيرتهن إضرابا عاما طال بتروغراد وموسكو، سرعان ما تحول إلى ثورة جارفة. خلال أسبوع، أجبر القيصر على الاستقالة، واضعاً حداً لقرون من حكم عائلة رومانوف. آنا وماريا أوليانوفا كانتا في روسيا. اعتقلت آنا فوراً لكنها بدأت بتحريض زميلاتها المسجونات، وقد أطلق سراحها بسرعة “حررني الشعب”، كما أعلنت.(٦٧) يوم ٨ آذار/مارس اختيرت آنا وماريا لتكونا جزءا من اللجنة المركزية للحزب البلشفي. أبقت مقالاتهما في البرافدا المنفيين على صلة بالأحداث الجارية. في أحد المقالات، كتبتا: “كيف تجري كل الأمور بهذه السرعة! كقصة كحلم جميل وصادق. في يوم واحد، نختبر أحداثا فيه أكثر مما يمكن أن نختبره خلال سنة، في أيام قليلة، حررتنا الجماهير من الماضي.”(٦٨) كان التاريخ يتسارع.

كتب لينين سلسة من المقالات سماها “رسائل من بعيد” حاجج فيها على ضرورة أن يعمق الاشتراكيون في روسيا السيرورة الثورية. في إحدى الرسائل، كتب لينين:

“إذا لم نستقطب النساء نحو النضال العام إلى الميليشيا إلى الحياة السياسية- إذا لم نخرج النساء من الجو الخانق في البيوت والمطابخ- إذاً من المستحيل تأمين حرية حقيقية. من المستحيل حتى بناء ديمقراطية، عداكم عن الاشتراكية”.(٦٩)

هكذا وضع لينين النساء وسط السيرورة الثورية. سلمت كولونتاي رسائل إلى البرافد يوم ٢ نيسان/أبريل. وكانت منخرطة في تعزيز تأثير البلاشفة في بتروغراد. كان عدد المندوبين البلاشفة قليلا في سوفيات بتروغراد، لذا طلبت كولونتاي انتداباً من نقابة عمال الخشب الذين رفضوا ذلك. ومن ثم تقربت من كتيبة من الجنود الذين رفضوا فكرة أن تمثلهم امرأة لكنهم غيروا رأيهم فيما بعد. فأصبحت كولونتاي ممثلتهم في السوفيات، ومن أصل ثماني مندوبات فيه أربع منهن كن من البلاشفة.(٧٠)

في هذا الوقت، سارع الآلاف من المنفيين إلى العودة لروسيا. وصل لينين وكروبسكايا إلى بتروغراد وهاجما الحكومة المؤقتة التي شكلها المناشفة والليبراليون والاشتراكيون الثوريون. وقد سبب موقف لينين الكثير من الاستهجان من بين الاشتراكيين بمختلف أطيافهم. في خطابه الأول أمام سوفيات بتروغراد، أعلن لينين عن ضرورة تعميق الثورة في روسيا وقد قاطعه الجمهور مستهجناً موقفه. ألكسندرا كولونتاي كانت البلشفية الوحيدة في الاجتماع التي تبنت أطروحات نيسان/أبريل، في حين اكتفت كروبسكايا وأرماند، الجالستان في الصف الأول، بتأييدها فقط.(٧١) اعتبر معارضو كولونتاي ولينين أن روسيا متأخرة جدا حتى توفر الثورة الشروط لتطور الرأسمالية قبل أن تصبح الاشتراكية محتملة. رد لينين وكولونتاي معتبرين أن الثورة الروسية يمكن لها أن تستمر فيما لو انتشرت في البلاد الصناعية ووفرت الشرارة لإنفجار الثورة الاشتراكية الأممية.

رفضت الحكومة المؤقتة سحب الجنود الروس من الحرب. رد الحزب البلشفي بزيادة معارضته للحرب بين صفوف نساء الطبقة العاملة مطلقاً مجلة رابوتنيتسا. فحصلت ماريا أوليانوف على آلة طباعة وتمكنت مع آنا من انتاج المجلة. ظهر العدد الأول يوم ١٠ أيار/مايو ١٩١٧ وبيع منها فورا أكثر من ٤٠ ألف نسخة.(٧٢) خلال شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو، خطبت كروبسكايا في مظاهرات فيبورغ، مدينة عمالية من ضواحي بتروغراد، كما شاركت أرماند في تظاهرات حاشدة في موسكو.(٧٣) عمقت المجلة المعارضة ضد الحرب وقدمت دعماً للبلاشفة من بين صفوف الطبقة والعاملة والنساء ووفرت مساحة سياسية للعاملات.

خلال صيف العام ١٩١٧، تزايد تحدي مجالس العمال والجنود لشرعية الحكومة المؤقتة. أجبر لينين على الاختباء. وقد بقي مع آنا وماريا أوليانوفا وزوج آنا مارك ولكن بات الأمر خطراً.(٧٤) أصبحت ماريا تمثل لينين في مجلس تحرير البرافدا واختيرت بالاجماع كمرشحة عن الحزب البلشفي في بتروغراد إلى انتخابات الجمعية التأسيسية.(٧٥)

أصبحت كروبسكايا عضوة في لجنة الحزب البلشفي في فيبورغ، حيث أسست شبكة من المدارس المحلية المجانية. كانت ملتزمة مسألة التربية، ولكنها كانت أيضا تعمل لتقويض سلطة الحكومة المؤقتة. وكما شرحت: “هناك أعمال لم تقم بها الوزارة ومدينة الدوما، في حين هناك ما صنعه البلاشفة والجمهور.”(٧٦) كما ترأست كروبسكايا لجنة مساعدة زوجات الجنود. كما أشار كاتب سيرتها: “كان هناك أعمال أساسية تؤمن الخدمات العامة وغير مرتبطة بالأحزاب.” وبالفعل “لم تكن جد لينينية”.(٧٧) وبالفعل، جرى تهميش زوجات الجنود باعتبارهن نساء غير مسيسات تطلبن الحسنة، ولكن كروبسكايا وكولونتاي اعترفن شيئا فشيئا بنضاليتهن ونظمن النساء كرفيقات في النضال من أجل الخبز والسلام.

نظمت كولونتاي مظاهرة لحوالي ١٥ ألف زوجة جندي. وقد مشين باتجاه سوفيات بتروغراد وطالبن بزيادة المساعدات المادية ووضع حد للحرب. فخرج رئيس السوفيات، الذي كان من المناشفة، وقال للمتظاهرات: “لا تطالبن بالمزيد من المال إنما بوقف الحرب” فأجابته كولونتاي باستياء: “ما هذا الكرم الآتي من منشفي!”(٧٨) كان المناشفة قد انضموا إلى الحكومة المؤقتة، التي لم ترفض فقط وقف الحرب إنما أطلقت هجوماً كارثياً سمي “هجوم كيرينسكي” في تموز/يوليو ١٩١٧، موقعاً الكثير من الضحايا. ودفع الثمن حراك النساء من بين نساء الجنود. كروبسكايا تتذكر: “أول من شارك في تمرد البلاشفة بين الجنود كانت بائعات بذور دوار الشمس ومشروب السيدر، العديد من بينهن كن زوجات الجنود”.(٧٩)

كان ملايين الروس يشاركون في الحرب على الجبهات. وقد حرضت البلشفيات زوجات الجنود وزوجات العمال اللواتي حللن مكانهم في المصانع الكبيرة ببتروغراد وموسكو. اعترف لينين بأهمية هذه النضالات عندما راجع برنامج الحزب البلشفي في حزيران/يونيو ١٩١٧. هذا الالتزام البلشفي للنضال من أجل مطالب النساء السياسية، والحق بالتصويت والتعليم المجاني للبنات، ومطالبهن الاقتصادية مثل إنشاء روضات في مراكز العمل، والحصول على استراحة بهدف إرضاع أولادهن وإجازة أمومة مدفوعة.(٨٠) أصبح البلاشفة الملجأ السياسي للعاملات اللواتي فهمن تدريجياً أن معارضة الحرب تعني معارضة الرأسمالية نفسها.

لكن، تنامت الخشية بين أوساط لينين من مرور اللحظة الثورية على الحزب البلشفي. في ٥ تشرين الأول/أكتوبر. كانت كروبسكايا من بين سبع مندوبين بلاشفة من فيبورغ حين طالبوا اللجنة المركزية للحزب البلشفي بأن تستولي فوراً على السلطة. في ٢٤ تشرين الأول/أكتوبر، أرسل لينين برقية سرية من اللجنة المركزية إلى لجان المنطقة بواسطة كروبسكايا لتوزيعها على أعضاء الحزب. بقيت كولونتاي مجتمعة طوال الليل لإقرار خطة الهجوم. أرماند أصبحت أمينة سر سوفيات موسكو. كلهن قدمن الدعم للدعوة إلى إسقاط الحكومة المؤقتة ونقل كل السلطة إلى السوفيات.

عالم جديد يولد

أوصلت ثورة أكتوبر الطبقة العاملة إلى السلطة، التي بدأت ببناء الدولة العمالية- على الرغم من ظروف البلد الذي دمرته الحرب العالمية والحرب الأهلية. وكان للنساء دوراً هاماً في هذا المسار. ساعدت آنا أوليانوفا على إقامة قسم حماية الطفولة وباتت رئيسته. كانت مهمتها تأمين المنازل لآلاف الأيتام بسبب الحرب.(٨١) كما كتبت آنا العديد من الدعوات إلى “الرفاق الشيوعيين” حتى “يتكدسوا في مكاتبهم” حتى يستطيع الأطفال التخاص من “المساكن الرطبة”.(٨٢) ناضلت من أجل بناء منازل الأطفال عند أطراف المدن، حتى يتمكن الأطفال من اللعب والحصول على الهواء النظيف، “من أجل مجتمع جديد نحتاج إلى نوع جديد من البشر”.(٨٣)

أصبحت ماريا أوليانوفا قائدة حركة المراسلات العمالية-الفلاحية (رابسيلكور)، حيث شجعت العمال والفلاحين للكتابة في البرافدا. بين ثورتي شباط/فبراير وتشرين الأول/أكتوبر هرع العمال والجنود إلى مكتب ماريا في مقر البرافدا لإخبارها بقصصهم.(٨٤) شرحت ماريا أن تشجيع العمال على الكتابة من شأنه تحقيق “الدور الاشتراكي الحاسم المتمثل بتقريب الحزب من الجماهير والعكس بالعكس.”(٨٥) كما انتقدت ماريا رابسيلكور لعدم اتخاذ “إجراءات نشطة بما يكفي” لتشجيع النساء على المشاركة في الكتابة للجريدة.(٨٦)

أصبحت كروبسكايا نائبة لأناتولي لوناشارسكي، رئيس ناركومبروس، المفوضية المسؤولة عن التعليم والفنون. حولت المفوضية نظام التعليم، موفرة التعليم المجاني والشامل لكل الأطفال. تضاعف عدد المدارس على الأقل خلال العامين الأولين من الثورة. اعتمد التعليم المختلط فوراً كوسيلة لمكافحة التمييز الجندري، وأنشئت مدارس للتلامذة ذوي الحاجات الخاصة لأول مرة. أتيح المجال لكل الناس للدخول إلى الجامعات بغض النظر عن المؤهلات. أصرت كروبسكايا على أن إصلاح التعليم كان مطلباً قاعدياً، وأضافت مجادلة: “لم نخف من تنظيم ثورة. دعونا لا نخاف من الناس… نريد من الشعب أن يدير البلد وأن يكون سيده.”(٨٧) مثلت هذه التطورات إنجازاً كبيراً في بلد مزقته الحرب وابتلي بمستوى مرتفع من الأمية.

كما عينت كولونتاي مفوضة للرعاية الاجتماعية، الأمر الذي جعل منها أول امرأة في العالم تتولى منصباً وزارياً في العالم. حتى عندما طهرت الشوارع المحيطة ببتروغراد من الأعداء، عقدت كولونتالي والنساء من رابوتنيتسا، من بينهن أرماند وكروبسكايا، مؤتمراً للعاملات. أشارت كولونتاي إلى أن بعض القادة الذكور من البلاشفة لم يدركوا أهمية المؤتمر، لكن لينين دعم النساء وأبدى اهتماماً حماسياً بالتحضيرات للاجتماع.(٨٨) فقدمت تقريراً عن حقوق الأمومة، وشكلت المناقشات التي حصلت أساس السياسة السوفياتية.(٨٩) أدركت الحكومة السوفياتية أن تربية الأطفال هي مسؤولية جماعية. خلال أسابيع من ثورة تشرين الأول/أكتوبر، أصبحت الخدمات الطبية مجانية لكل النساء، ونال الأطباء أجورهم من الدولة، وأصبحت جميع مؤسسات رعاية الأطفال تحت سيطرة الحكومة. ونفذت التعهدات البلشفية بتشريع منح إجازة أمومة مدفوعة وإجازة للرضاعة.(٩٠)

وقد عينت أرماند مديرة اللجنة المركزية للتحريض والبروباغندا بين العاملات (زينوتديل)، وكانت كولونتاي على رأس هذه اللجنة. كان عمل اللجنة مهمة غير اعتيادية: “واحدة من أكثر المحاولات الطامحة لتحرير النساء على الإطلاق من قبل الحكومة”، بهدف تحدي إرث اضطهاد النساء في بلد مزقته الحرب.(٩١) مع تراجع الجيش الأبيض، أسست عاملات زينوتديل فروعاً لها في جميع أنحاء روسيا. وشجعت النساء على النضال من أجل حقوقهن القانونية تثقيف النساء عن الرعاية الصحية. وانتقلت عضوات زينوتديل إلى آسيا الوسطى، حيث نظمت “الخيام الحمر” و”القوارب الحمراء” من أجل الوصول إلى المسلمات. في خريف ١٩١٨، اجتمعت أكثر من ألف امرأة في أول مؤتمر نسائي لمجمل روسيا. وكان بين المندوبين عدد كبير من المسلمات. أفادت كولونتاي للويز براينت كيفية نجاح المناضلات في إشراك المسلمات أكثر من الرجال.(٩٢)

كما أطلقت أرماند مجلة نظرية مختصة بالنساء، كومونيستا، من أجل تمتين فهم النساء لجذور اضطهادهن. حملت الطبعة الخامسة من المجلة نعيها. بعد أن أنهكها العمل طيلة ١٦ ساعة باليوم، ذهبت للتعافي في مصحة بجبال القوقاز، لكن الجيوش البيضاء هاجمت المنطقة. أجليت أرماند إلا أنها أصيبت بالكوليرا وتوفيت يوم ٢٣ أيلول/سبتمبر ١٩٢٠، عن عمر ٤٦ سنة. ودفنت في الساحة الحمراء بموسكو حيث أنشدت الجماهير نشيد الأممية.

تظهر كتابات وخطب لينين في تلك السنوات التزامه العميق بضرورة تغيير حياة النساء، سواء من ناحية المساواة الرسمية أو التحرر من العمل المنزلي الشاق. فكرر قوله إن النظام السوفياتي الجديد تجاوز جميع الديمقراطيات الليبرالية في العالم بإلغاء جميع القيود المفروضة على حقوق النساء، ولكن على الرغم من كل هذه الإجراءات، بقيت النساء أسيرات المنازل لأن “الأعمال المنزلية الصغيرة تسحقها وتخنقها وتسخّرها وتحط من قدرها، وتقيدها بالمطبخ والرعاية وهي بالتالي تهدر جهدها على الكدح غير المنتج والتافه والمدمر للأعصاب والساحق.”(٩٣) اعتبر لينين أن تحرير النساء من “العبودية المنزلية” لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تحويل العمل المنزلي الفردي الصغير إلى خدمات منزلية اجتماعية واسعة النطاق، وهذا يتطلب التزاماً سياسياً وموارد مادية شحيحة.(٩٤) حكومة العمال قامت بخطوات باتجاه تحقيق رعاية الأطفال وما زال هناك الكثير لتحرر النساء.

خيانة ثورة النساء

توفي لينين عام ١٩٢٤، عزز ستالين من استيلائه على السلطة من خلال تخلصه من جيل “البلاشفة القدامى” الذين أسسوا الحزب قبل ثورة أكتوبر. كانت النساء في هذه الورقة محميات في بعض النواحي من خلال علاقتهن بلينين، ومع ذلك حاولن كلهن مقاومة ستالين. كانت كروبسكايا المتحدثة الأولى لتكتل المعارضة العمالية في مؤتمر الحزب المنعقد عام ١٩٢٥، لكنها تعرضت للتشبيح والتهديد حتى تتراجع، فهددها ستالين بشكل فظ بطردها والعثور على أرملة أخرى للينين. وبعد أن دعمت كولونتاي معارضة ستالين، أرسلت بمهمة ديبلوماسية إلى السويد والمكسيك، وأصبحت سفيرة للاتحاد السوفياتي في النروج. أما ماريا أوليانوفا فدعمت في البداية ستالين الذي تحالف مع صديقها القديم نيكولاي بوخارين، ظانة أنه “أهون الشرين”.(٩٥) لكن ستالين وبعد أن طرد ليون تروتسكي وليف كامينيف وغريغوري زينوفييف من المكتب السياسي، انقلب على بوخارين وشن حملة تشبيح ضد ماريا. بحلول العام ١٩٢٩، طردت من منصبها في البرافدا ورابسيلكور. انقلب ستالين على آنا أوليانوفا عندما حاولت الإعلان عن اكتشافها يهودية أجدادها للحد من تزايد معاداة السامية المتنامية.

كانت نجاة كروبسكايا وآنا وماريا أوليانوفا وكولونتاي أمراً استثنائياً. فالبلاشفة القدامى من كل الأنواع الجندرية الذين شكلوا تهديداً لآلة كذب ستالين قتلوا. بربارة ياكوفليفا، التي انضمت إلى البلاشفة عندما كانت طالبة بعمر الـ ١٨ سنة عام ١٩٠٤، وانتخبت عضوة في اللجنة المركزية للحزب البلشفي في شهر أغسطس/آب ١٩١٧ ودعمت معارضة تروتسكي لستالين قبل أن تعتقل وتسجن لمدة ٢٠ سنة عام ١٩٣٨، وأطلقت النيران عليها عام ١٩٤١. زلاتا ليلينا، زوجة زينوفييف، قتلت عام ١٩٣٨، وتوفيت زوجته السابقة، أولغا رافيتش في الغولاغ. وأطلقت النار عام ١٩٣٨على الشيوعية البريطانية روز كوهين، التي تزوجت بلشفياً من روسيا. وأطلقت النار على أولغا كامينيفا، أخت تروتسكي وزوجة كامينيف، عام ١٩٤١، إلى جانب ماريا سبيريدونوفا، الزعيمة الاشتراكية المعروفة التي لعبت دوراً بارزاً عام ١٩١٧. وخلف هذه الأسماء الكبيرة يوجد المئات من البلاشفيات؛ المعلمات والممرضات والعاملات اللواتي قتلن على يد ستالين لأنهن جسدن روح ثورة ١٩١٧.

لا ينبغي لوحشية الثورة المضادة القاتلة بقيادة ستالين أن تزيل الإرث التحرري الذي مثله البلاشفة. كان الحزب البلشفي كائناً حياً بناه أعضاؤه. قدمت ماريا وآنا أوليانوفا وأرماند وكولونتاي مساهمة من نوعين للحزب: الأول، أدركن مركزية نضالات العاملات ومطالبتهن بالتحرر بالنسبة إلى الحركة الاشتراكية. والثاني، في اللحظات الحاسمة، عملن على تأسيس منظمة البلاشفة كقوة سياسية مهيمنة، ومعارضة الحرب العالمية الأولى، وتعميق الحركة الثورية صيف العام ١٩١٧، وإعطاء العالم لمحة موجزة عن كيف يمكن للاشتراكيين أن يبنوا مجتمعاً ديمقراطياً تحررياً بشكل حقيقي.

جودي كوكس: مدرّسة في شرقي لندن، تدرس للحصول على شهادة الدكتوراه حول النساء والحركة التشارتية من جامعة ليدز. نشرت كتابين: ثورة النساء: ١٩٠٥١٩١٧ (هايماركت، ٢٠١٩) وبنات التاريخ الثائرات (ريدوردز، ٢٠٢٠).

نشرت الورقة في العدد ١٧١ صيف ٢٠٢١ بمجلة الاشتراكية الأممية

الهوامش:

1 لويز براينت صحافية اشتراكية سافرت مرتين إلى روسيا بهدف الكتابة عن الثورة وجالت في الولايات المتحدة مدافعةً عن ضرورة التضامن مع الاشتراكيين.

2 Turton, 2004, pp22-23.

3 McDermid and Hillyar, 2006, p148.

4 Rappaport, 2017.

5 Dean, 2021.

6 Le Blanc, 2015 Lih, 2006.

7 Porter, 1976, p53.

8 Ross, 2015, p83 Engels, 1976.

9 McNeal, 1972, p19.

10 Wolfe, 1963.

11 Hartnett, 2014, pp205-236.

12 Porter, 1976, p283.

13 Turton, 2004, p34.

14 McNeal, 1972.

15 McNeal, 1972, p95.

16 Dean, 2021.

17 Clements, 1997, p12.

18 Turton, 2004, p47.

19 Turton, 2004, p53.

20 Turton, 2004, p69.

21 McNeal, 1972, p93.

22 McNeal, 1972, p101.

23 Bryant, 1923, p23.

24 McNeal, 1972, p29.

25 McNeal, 1972, p30.

26 McNeal, 1972, p31.

27 Porter, 1980, p52-53.

28 Kollontai, 1984.

29 Clements, 1997, p101.

30 Krupskaya, 1966.

31 McNeal, 1972, p78.

32 كل التحليلات الماركسية الرئيسية السابقة لاضطهاد النساء كتبها رجال (انجلز وأغوست بيبيل) أو بمشاركة رجل (إليانور ماركس وإدوارد أفيلينغ). عام ١٩٠٥، كانت كلارا زيتكين قد نشرت القليل من المقالات القصيرة والخطب.

33 Porter, 1980, p121.

34 Porter, 1980, p193.

35 نشرت كولونتاي الأسس الاجتماعية لمسألة المرأة عام ١٩٠٨. كان الكتاب مجادلة حادة مع النسوية، لكن حجمه الكبير، ٤٠٠ صفحة، لم يتيح له أن يستعمل ككتيب على نطاق شعبي.

36 Krupskaya, 2018, p10.

37 Elwood, 1992, p38.

38 Porter, 1980, pp92-93.

39 Turton, 2004, p114.

40 Turton, 2004, p51.

41 McNeal, 1972, p123.

42 Elwood, 1992, p45.

43 Elwood, 1992, p48.

44 Porter, 2020, pp51-54.

45 Lenin, 1962.

46 Porter, 1980, p152.

47 Porter, 1980, pp191-192.

48 Turton, 2004, pp106-108.

49 Turton, 2004, p108.

50 Elwood, 1992, pp78-79.

51 Elwood, 1992, p105.

52 Rappaport, 2010, p194.

53 Elwood, 1992, pp141-143 McNeal, 1972, p156.

54 Bryant, 1923, p20.

55 Elwood, 1992, p135.

56 Lenin, 1972a.

57 Lenin, 1977.

58 Lenin, 1965.

59 الأخريات: براسكوفيا كوديلي، وكونكورديا سامويلوفا، وليودميلا مينزينكايا، وليلينا زيوفيفا وليودميلا ستال

60 Lenin, 1976.

61 Turton, 2004, p199.

62 Turton, 2004, p201.

63 Turton, 2004, p215.

64 Porter, 1980, p226.

65 Lenin, 1964a.

66 Lenin, 1964a.

67 Turton, 2004, p116.

68 Turton, 2004, p123.

69 Lenin, 1964b.

70 Porter, 2020, p190.

71 Porter, 1980, p248.

72 Porter, 1980, p255.

73 Porter, 1980, p249.

74 Turton, 2004, p140.

75 Turton, 2004, p145.

76 Porter, 1976, p177.

77 McNeal, 1972, p177.

78 Porter, 1980.

79 McDermid and Hillyar, 1994, p165.

80 Lenin, 1964c.

81 Turton, 2004, p150.

82 Turton, 2004, p173.

83 Turton, 2004, p174.

84 Turton, 2004, p140.

85 Turton, 2004, p52.

86 Turton, 2004, p191.

87 Fitzpatrick, 2002, p28.

88 Kollontai, 1984.

89 Porter, 1980,

90 Porter, 1980, p275.

91 Clements, 1997, p126.

92 Bryant, 1923, p121.

93 Lenin, 1972b.

94 Lenin, 1965.

95 Turton, 2004, p194.

المراجع:

Bryant, Louise, 1923, Mirrors of Moscow (Thomas Selzer Inc), https://www.marxists.org/archive/bryant/works/1923-mom

Clements, Barbara, 1997, Bolshevik Women (Cambridge University Press).

Cox, Judy, 2019, The Women’s Revolution: Russia 1905-1917 (Haymarket Books).

Dean, Jodi, 2021, “Lenin’s Desire: Reminiscences of Lenin and the Desire of the Comrade”, in Hjalmar Jorge Joffre-Eichron and Patrick Anderson (eds), Lenin150 (Daraja Press).

Elwood, R C, 1992, Inessa Armand: Revolutionary and Feminist (Cambridge University Press).

Engels, Friedrich, 1976 [1884], “Letter to Eugenie Papritz”, in Karl Marx and Friedrich Engels, Selected Correspondence (Progress Publishers), https://www.marxists.org/archive/marx/works/1884/letters/84_06_26.htm

Fitzpatrick, Sheila, 2002, Commissariat of Enlightenment: Soviet Organisation of Education and the Arts under Lunacharsky, October 1917-1921 (Cambridge University Press).

Hartnett, Lynne Anne, 2014, The Defiant Life of Vera Figner: Surviving the Russian Revolution (Indiana University Press).

Kollontai, Alexandra, 1984 [1919], “On the History of the Movement of Women Workers in Russia”, Alexandra Kollontai: Selected Articles and Speeches (Progress Publishers).

Krupskaya, Nadezhda, 1966 [1933], “Preface to The Emancipation of Women”, in V I Lenin, Writings of V I Lenin (International Publishers).

Krupskaya, Nadezhda, 2018 [1902], The Woman Worker (Manifesto Press).

Le Blanc, Paul, 2015 [1990], Lenin and the Revolutionary Party (Haymarket Books).

Lenin, V I, 1962 [1905], “Two Tactics of Social-Democracy in the Democratic Revolution: Conclusion: Dare We Win?”, Collected Works, volume 8 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1905/tactics/ch13.htm

Lenin, V I, 1964a [1924], “A Caricature of Marxism and Imperialist Economism”, Collected Works, volume 23 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1916/carimarx

Lenin, V I, 1964b [1917], “Letters from Afar”, Collected Works, volume 23 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1917/lfafar/index.htm

Lenin, V I, 1964c [1917], “Materials Relating to the Revision of the Party Programme”, Collected Works, volume 24 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1917/reviprog/index.htm

Lenin, V I, 1965 [1921], “International Working Women’s Day”, Collected Works, volume 32 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1921/mar/04.htm

Lenin, V I, 1972a [1907], “The International Socialist Congress in Stuttgart”, Collected Works, volume 13 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1907/oct/20.htm

Lenin, V I, 1972b [1919], “A Great Beginning”, Collected Works, volume 29 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1919/jun/19.htm

Lenin, V I, 1976 [1913], “Letter to Inessa Armand”, Collected Works (Progress Press), Moscow, Volume 35, https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1913/dec/00ia2.htm

Lenin, V I, 1977 [1913], “The Working Class and Neo-Malthusianism”, Collected Works, volume 19 (Progress Press), https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1913/jun/29.htm

Lih, Lahs T, 2006, Lenin Rediscovered: What Is to Be Done in Context (Brill).

McDermid, Jane, and Anna Hillyar, 1994, Midwives of the Revolution: Women Workers and Women Bolsheviks in 1917 (University College London Press).

McDermid, Jane, and Anna Hillyar, 2006, “In Lenin’s Shadow: Nadezhda Krupskaya and the Bolshevik Revolution”, in Ian Thatcher (ed), Reinterpreting Revolutionary Russia: Essays in Honour of James D White (Palgrave McMillan).

McNeal, Robert, 1972, Bride of the Revolution: Krupskaya and Lenin (Michigan University Press).

Porter, Cathy, 1976, Fathers and Daughters: Russian Women in Revolution (Virago Press).

Porter, Cathy, 1980, Alexandra Kollontai (Virago Press).

Porter, Cathy, 2020, Alexandra Kollontai: Writings From The Struggle (Bookmarks).

Rappaport, Helen, 2010, The Conspirators (Windmill Books).

Rappaport, Helen, 2017, ‘The Women in Lenin’s Life”, Helen Rappaport website, https://tinyurl.com/at8aph3a

Ross, Kristin, 2015, Communal Luxury: The Political Imaginary of the Paris Commune (Verso).

Turton, Kathy, 2004, “Forgotten Lives: The Role of Anna, Ol’ga and Mariia Ul’ianova in the Russian Revolution 1864-1937”, University of Glasgow, https://tinyurl.com/p2pe79et

Wolfe, Bertram, 1963, “Lenin and Inessa Armand”, Slavic Review, volume 22, issue 1.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة