لأنك سوداء، أنت جميله

علياء ابراهيم محمود

2021 / 12 / 5

مثلي، مثل قطاع عريض من البشر ذوي الأنفس السوية؛ أؤمن أن لكل جسمٍ لوناً وملامح لها جمالُها الخاص؛ هكذا خلقنا الله، عزّ وجلّ، مختلفين في الألسن والملامح والألوان، فهذه سنّة كونية، وآية من آيات الله في الأرض.
في المدرسة، يتعلّم أطفالنا أنه لا عنصرية ولا تمييز ولا تنمّر على الآخر بسبب ملامحه أو لونه، بل إننا نؤمن أنه لا فرق بين أسودَ وأبيضَ، ولا عربيٍّ وأعجميٍّ، إلا بالتقوى، وأن بلالاً، مؤذن الرسول، صلى الله عليه وسلم، الصحابي الجليل، رضي الله عنه، وأشهر أصحاب البشرة الداكنة، واحدٌ من المبشرين بالجنة.
أما الإعلام "المدرسة الكبرى للشعوب"، التي أصبحت في عصرنا الحالي المؤسسةَ الأكثر تأثيراً فينا - كباراً كنّا أو صغاراً ـ فقد تعوّدت أن تجسّد - في نسبة كبيرة من الأفلام الكرتونية الموجهة للأطفال - الشخصياتِ الجذابةَ من ذوي البشرة البيضاء، بينما الأشرار، ومرتكبي الجرائم، وكذلك أصحاب المهن البسيطة، فهم من أصحاب البشرة الداكنة! ما يُنشئ في ذهن الطفل منذ صغره علاقة شرطية بين جنسٍ معيّنٍ، أو جنسيةٍ أو مهنةٍ ما، وبين السلوك الصادر عنها، في السياق الدرامي.
إن الدراما في عصر سطوتها وسيطرتها علينا تستطيع أن ترسّخ صوراً ذهنية على مدى أجيال عن بعض الظواهر والقيم والشخصيات والمهن والجنسيات، فعلى سبيل المثال، نجح الإعلام الغربي بجدارة في الربط بين العديد من الثنائيات؛ مثل ربطه بين الشخصية العربية المسلمة وبين الإرهاب، وكذلك بين أصحاب البشرة السوداء والجريمة، وبين التدخين والرجولة، وبين الجمال والبشرة البيضاء!.
كل هذه الأفكار وأكثر تداعت وتصارعت في عقلي وأنا أمسك رواية المبدعة الجزائرية عائشة بنور، الصادرة حديثاً عن "دار الخيال للنشر والترجمة" في الجزائر، التي عنونتها بـ "الزنجية".
يطرح عنوان رواية الكاتبة عائشة بنور (الزنجية) العديد من التساؤلات؛ فهل يا ترى يمكن أن نعتمد على معنى الكلمة كمفردة في القاموس تحدد ملامح أصحاب الجمال الخاص المتفرّد بالبشرة السوداء بدرجاتها المتنوعة، والشعر المجعّد، التي جاءت من الأقطار الإفريقية؟ وهل هي كلمة تشير إلى عنصرية وتمييز فتصيب أصحابها بأذى، وتسكب الملح على جروح ما زالت تنزف لارتباطها عبر قرون وعقود بحركة الاستعمار والاستعباد والقهر لهؤلاء البشر؟، وهو ما رفضه (جيفري سامونز) المؤرخ الأمريكي -الذي له العديد من الأبحاث في تاريخ الأمريكيين الأفارقة- حينما علّق قائلاً: "لا أعتقد بأنها كلمة خبيثة، فقد استخدمت في أواخر التسعينات، وأحياناً استخدمت لتوصيف الفئة المثقفة والنافذة من الأمريكيين الأفارقة".
هكذا أثارت عائشة بنور بعنوان روايتها الكثير من التساؤلات في عقلي، قبل أن أصل إلى الإهداء الذي خصّت به الكاتبة المرأة الإفريقية والآسيوية، جنباً إلى جنب مع الطفولة المشرّدة!
يجد القارئ نفسه أمام كاتبة مبدعة، وعنوان مثير للجدل، وإهداء جمع رمز الأمومة والطفولة، وتقديم أدبي متميز للناقد السوداني عز الدين ميرغني؛ كلها عوامل جاذبة لقراءة الرواية، التي اختارت الكاتبة أن تدور معظم أحداثها في النيجر الواقعة غربي أفريقيا، حيث يخترق نهر النيجر أراضيها، ويحيط بها من الشمال الجزائر وليبيا، بينما تغطي الصحراء معظم مساحتها، ومن هنا تبدأ الروائية سرد الأحداث على لسان بطلة الرواية (بلانكا)، التي جسّدت مأساة المرأة الإفريقية، التي تدفن صراخها في الرمل، كما عبّرت الكاتبة. فـ(بلانكا) تصف نفسها قائلة: "كنت مجرد فتاة تبحث عن رغيف الخبز، لأسرة فقيرة، في منطقة تكاد تنعدم فيها الحياة، وتحفظ الأشعار التي لم تتوقف عن الغرق في الحزن والتشبث بالحياة".
تتجمّع (بلانكا) مع النساء حول بئر ماء، لتملأ كل منهن دلوها بمياه غير صالحة للشرب، وفي درجة حرارة تضيق بها صدور نساء ضاقت بهن الحياة، وبينما يحملن أطفالهن فوق ظهورهن، يحملن هموم توفير خبز يسدّ رمق هؤلاء الأطفال، الذين يحصدهم الموت، بسبب التلوث أو الجوع، أو الأمراض والأوبئة، ومع هذا، فإنهن حول البئر يتجمعن ويسخطن ويفضفضن، فرغم أن الماء خلق الله منه كل شيء حي، إلا أنه في النيجر جسر الموت؛ الموت لجميع الكائنات الحية، وفي هذا الطابور، تقف (بلانكا) تتحدث مع نفسها، وتتأمل النساء وأطفالهن وقصصهن ومآسيهن، وقد عبرت عن هذا المشهد قائلة: " أقف عند حافة البئر، وأنظر إلى طوابير النساء الموجوعات، وهن يتزاحمن عليها من أجل قطرة ماء".
تبدأ (بلانكا)، التي تعيش في تروما (صدمة نفسية)، بعد أن تجوّلت شفرة السكين لتجتز جزءًا من جسدها، في سرد مأساتها، ومأساة قريناتها في النيجر، ومَنْ أتين من أقطار إفريقية مجاورة؛ فبسبب هيمنة وسطوة وسلطة العادات والتقاليد والموروثات، تتعرض (بلانكا) ، لطقس اجتماعي بغيض وقميء ووحشي، يتمثل في عملية اجتزاء جزء من جسدها، على مرأى من أبيها وأمها، ورجلين يوثقانها من كتفيها، وعجوز تحمل شفرة السكين، بلا رحمة، تقول لها وهي تبتسم: "أنت الآن امرأة، لا أحد سيقترب منك؟!"، والجميع لا يعبأ بالطفلة (بلانكا)، التي تعجز الكلمات عن وصف ما تشعر به من آلام وأوجاع وجراح جسدية ونفسية، بل الطبول تدق مع صراخها وسيلان دمها، ومنذ هذه اللحظة، سيسكن الصمت والوجع جنبات نفس الفتاة النيجيرية (بلانكا).
مرّت سنوات على هذا الحدث، كبرت (بلانكا)، وفشلت أن تنسى تفاصيل مذبحتها ، وقد عبّرت عن هذا قائلة: "أمّا اليوم، فالحياة قد هزمتني منذ نعومة أظافري، وسرقت ابتسامتي كطفلة تعانق الحزن والألم، منذ صرخاتها الأولى على شفرة السكين".وما زاد من تعمّق الصدمة النفسية لديها، الواقع المعيشي القاسي الذي لا ينذر بأي نوع من التغيير، والذي زرع اليأس في النفوس، وهكذا أصبح الصمت والألم والوجع والحزن، مشاعر تلازم (بلانكا) ليلاً ونهاراً، مضافاً إليها مشاعر اللوم لأبويها، اللذين سمحا بأن يتركا ابنتهما تحت سطوة شفرة السكين، وتدريجياً، تنمو في قلبها مشاعر القلق على مصير أختها الصغيرة، وكل الفتيات الصغيرات، أن يخضعن لهذا الطقس الوحشي، دون ذنب ارتكبنه، سوى أنهن خلقن نساء!.
تأملت هذه المذبحة وتبعاتها على (بلانكا) ومن هُنّ مثلها في إفريقيا أو آسيا، فتساءلت في نفسي: كيف يحرّم الله وأد البنات، ويتحايل البشر لوأد الأنثى فوق الأرض؟ وبدلاً من إقامة مراسم دفن الطفلة حية تحت الأرض، كما كان يحدث في الجاهلية، فلتُقم مراسم دفن جزء من جسدها، ولتُدفن مشاعرها وأنوثتها وكرامتها، وليُمتهن جسدها وروحها على دقات الطبول. ولعلني، من شدة توحدي مع الحادثة، التي ظلت مسيطرة على صفحات الرواية، وما وصفته (بلانكا) من فقر وجوع وتلوث وأوبئة.. رأيت أن هذه المذبحة الوحشية التي تتعرض لها الفتيات الصغيرات لا تشير فقط إلى بتر جزء من جسد طفلة صغيرة، بل إلى اجتزاء وبتر هؤلاء البشر من المجتمع الإنساني؛ إما بالتلوث، أو بالمجاعات، أو بالعنف، أو بتجارة البشر، أو بالنبذ، وكل ألوان ودرجات العنف الجسدي والنفسي والاجتماعي والاقتصادي تمهد الطريق إلى الموت، أو كما جاء على لسان البطلة: "الموت حصد العديد من الناس بسبب إشعاعات منجم آرليت، وشدّة التلوث البيئي بالمخالفات الذرية، والتلال المتراكمة من النفايات السّامة، والمياه الملوّثة قضت تقريباً على كل شيء ينبض بالحياة"، ليظلّ أقصى أحلام هؤلاء البشر في هذه المناطق قطرة ماء ورغيف خبز!
تتلفت (بلانكا) حولها لتدرك أن الأمر لا يقف فقط عند مذبحة الفتيات الصغيرات بشفرة السكين، بل هناك قصص الفتيات الصغيرات المغتصبات، التي عبّرت عنها قائلة: "أذكر صديقتي آيدي، التي فرّت من بلدها، كانت تخبرنا عند البئر، وهي مرعوبة، قائلة: الفتيات الصغيرات يُغتصبن من رجال خصصوا لذلك، يسمى الواحد منهم في المناطق المجاورة (الرجل الضبع)، أو هكذا كانوا ينادونه، هؤلاء الرجال مرضى بداء الإيـدز، لا يهمهم انتقاله إلى الفتيات الصغيرات، أو انتشاره، المهم أنَّهم يتقاضون مبالغ زهيدة من أجل عملهم هذا".
اغتصاب وإيدز وحمل وإجهاض!!، مرة أخرى أتوحّد مع المشهد الروائي للمبدعة عائشة بنور، وأتساءل بمرارة: كيف تُحرم فتيات صغيرات من اللعب والحلم، كيف تُغتصب البراءة؛ فبدلاً من أن يحلمن مثل قريناتهن بالألعاب والحلوى، يحملن أطفالاً وهنّ في سن الطفولة، ويحمل المجتمع الدولي عار تركهن هكذا، في ظل منظمات حقوق الإنسان والمرأة والطفولة، بل أكثر من هذا، منظمات الرفق بالحيوان، الذي نؤمن أنه كائنٌ وكبدٌ حي، أُمرنا الله بالرفق به، فما بالك بالإنسان، الذي كرّمه الخالق، عزّ وجلّ، وهكذا، يتآمر الجميع لبتر البراءة والأمن والأمان من نفوس الأنثى الإفريقية شيئاً فشيئاً، لتحيا المرأة هناك تبحث عن رغيف خبز وقطرة ماء، وتبحث أيضاً عن قبر لتدفن وليدها الذي يموت أمام عينيها جوعاً أو مرضاً، وصحراء تدفن فيها صراخها.
وعلى الرغم من هذه المأساة، التي برعت الكاتبة في وصفها، حتى كدت أسمع صراخ (بلانكا) الصامت، ويسري في قلبي قهر وحزن على أمهات يسقين أطفالهن ماء يعلمن أنه سبيل للموت!، ومع كل هذا السواد والحزن واليأس، ظلت (بلانكا) منذ بداية الرواية تتغنى بأشعار الرئيس السنغالي سنغور (لأنكِ سوداء فأنتِ جميلة)؛ ترددها في حزنها وترحالها وألمها، وكأنها تؤكد لنفسها تميّزها، على الرغم من كل هذا الواقع المرير.
أما (فريكي)؛ رفيق طفولة (بلانكا)، الهائم بها حُباً، الذي أشارت الكاتبة إلى معنى اسمه باليونانية (البرد والخوف)، فيدرك القارئ، فيما بعد عبر صفحات الرواية، أنه نال نصيباً كبيراً من اسمه، فـ(فريكي)، الذي شاء الله أن يخلقه رجلاً، لم تشفع له رجولته في مجتمع ذكوري بامتياز، فقد كان يعمل في ارليت، التي وصفتها (بلانكا) بأنها (مدينة المناجم، وأرض الذهب في شمال النيجر، المنطقة الموبؤة، يلفها كفن من الغبار المشع نووياً).
في هذه البيئة، عليه أن يعمل في منجم تحت سلطة السيد (روبرت)، الذي يتفنن في إذلاله وإهدار كرامته هو والشباب الذين يجرّون النفايات خارج المنجم، وقد عبّرت الكاتبة عن تأثير هذا القهر في نفس فريكي، رغم إذعانه واستسلامه، قائلة: "لكن النار المتأججة داخله تزداد يوماً بعد يوم، مثل وحش كاسر، ينتظر أن ينقضّ على فريسته".
وتأبى الكاتبة إلا أن تجعل، مع كل هذا الواقع المرير، رغبة قوية في تغيير هذا الواقع والتطلع إلى المستقبل، خاصة في نفس (فريكي)، الذي كان يبذل كل جهده كي ينتشل الحبيبة (بلانكا) من أحزانها، ويفرّ بنفسه وأسرته، وبأحلامه وطموحاته، نحو غدٍ مشرق، يليق بكائن بشري كرّمه الله، فليهاجرمثله مثل الكثيرين غيره، الذين حلموا بالخلاص، وإن كان معظمهم يحلم بعبور البحر نحو أوروبا، في هجرات سريّة محفوفة بالمخاطر، إلا أن (فريكي) كان يريد الهجرة إلى الشمال، فبعد إنجاب (بلانكا) ابنتها التي حملت اسم (إفريقيا)، والتي أصبحت تخشى أن يكون مصيرها مثل مصير أمها، وغيرها من الفتيات الإفريقيات، توافق على الهجرة، وتقنع أمها التي استبدّ بها اليأس هي الأخرى، وأصبح أملها رغيف خبز، ويرحل (فريكي) و(بلانكا)، حاملة فوق ظهرها (إفريقيا)، ومعها أختها وأمها، وأم فريكي (بيانكا) وابنها الصغير، في رحلة محفوفة بكل أنواع المخاطر؛ الليل والظلام والجماعات المسلحة، وتفتيشات أمنية مكثفة.
أتأمل الأحداث التي رسمتها الكاتبة ببراعة، فـ(بلانكا) التي تجسّد المرأة الإفريقية، تعيش غربة داخلية عن نفسها وعن جسدها، وغربة عن وطنها وهي في وطنها، فالفقر في الوطن غربة، وغربة أخرى اختارتها بمحض إرادتها، بعيداً عن أرض بخلت على أهلها بقطرة ماء نظيف ورغيف خبز، واغتصبت الطفولة والبراءة، وأجهضت الأحلام والآمال، فهل يا ترى سيكون الشمال واحة أمن وأمان لهؤلاء الفارين في الظلام من قسوة أوطانهم ؟!.. تجيب (بلانكا) عن هذا التساؤل، الذي يتبادر إلى ذهن القارئ، قائلة: "كنت أحسبه عالماً مثالياً، لكن بعد رحيلي عن حيِّزي الرَّمليّ، اكتشفت عالماً أكثر بؤساً وشقاءً".
و في مدينة (تيلدا)، التي تسمّى (مدينة الورود)، يتلقفهم عالم آخر، مع آخرين مثلهم يعانون الفقر والجوع والبرد والفزع، والتنقل من مداخل العمارات إلى أسفل الجسور، يتجمعون عرايا من أجل أن يمدوا أياديهم لطلب كسرة خبز من المارة، يحملون أطفالاً عراة جائعين، والرفض القاسي من أهل المدينة يتجسّد كل لحظة في نفورهم من هؤلاء الوافدين، وتتداعى إلى أذهانهم الصور المريبة عن هؤلاء، الذين يزدادون يوماً بعد يوم. عاشت (بلانكا) و(فريكي) وأسرتيهما ومن مثلهم الغربة بدوائرها التي تتداخل مع بعضها البعض، لتصبح (بلانكا) أسيرة الجوع وأسيرة الخوف، ولتزداد حزناً وبرداً وصمتاً وشوقاً، وحنيناً إلى الوطن رغم قسوته، معبّرة عن هذه المشاعر بقولها: "حينما تخرُّ قوانا نبتسمُ في الوطن، أمّا في الغربة فلا".
إذا كانت الرواية على أرض الواقع لا تنتهي، فإن الكاتبة لابد أن تنهي الأحداث في الفصل الثامن، الذي ظهرت فيه الصحفية (هاجر)، مواطنة الشمال، بعد مصادفة تجمعها بـ(فريكي)، الذي عانى من البرد والجوع والخوف في رحلته الشاقة التي قضت على أحلامه وآماله التي هاجر من أجلها. لم تخفِ هاجر أن هناك صوراً ذهنية عن الأمراض والأوبئة والأفكار المريبة، استدعاها عقلها عندما حاول (فريكي) أن يصافحها، وعلى الرغم من هذا، فقد أظهرت شفقة وعطفاً عليه وعلى من مثله؛ ففي تجوالها بشوارع المدينة، ترى الأفارقة الذين يعانون كل أنواع الفقر والجوع والنبذ، ولذلك يظلون يتجمّعون مع بعضهم البعض من شتى الأقطار الإفريقية، كي يستعيدوا مشاعر الدفء والطمأنينة والسكينة، التي فقدوها في الغربة، وهي المشاعر التي سرت في نفس (فريكي) عندما تقابل مع ثلاثة أصدقاء من تشاد والسودان والسنغال، وكان هو رابعهم من النيجر، وسيصاب بالذهول والاندهاش، كما عبّر، عندما يعرف أنهم سيأخذونه إلى بيت.. هل هناك بيت في هذه المدينة التي لم يجد فيها مأوى يقيه البرد ويجمعه بأسرته؟! وإذ به في وادي الجمعة الإفريقية، الذي هو عبارة عن بيوت بلاستيكية يتجمّع فيها الأفارقة، أو كما أطلق عليهم (فريكي) (المهاجرون الهاربون)، الذين اتخذوا مكاناً لهم على ضفاف الوادي، تجمعوا مع بعضهم البعض، ومع أحلامهم التي ضاعت في الوطن، وتبخرت في الغربة.
لنستمع إلى صوت صراخ أم فريكي، وهي تحكي مأساتها قائلة: (أنا امـرأة بشرتها سوداء، ودمها أسود، وأرضها سوداء، تحمل فلذة كبدها على ظهرها، جائعاً، عارياً، تهرب به بين الفيافي والقفار، خوفاً من نار تأكل الهشيم والجسد. امرأة تختفي ٨عن الأنظار هاربة، تخفي جسدها بين الظلال خشية اغتصاب، أو ختان وحشي، أو قتل بالجوع وبالرصاص. أنا يا سيدتي.. مجرد امرأة سوداء تائهة بين الحقيقة والخيال، امرأة تبحث عن الأمان، هاربة من مرض إيبوال الفتّاك، وداء السيدا اللعين، ومن شفرة السكين، ومن حروب لا تضع أوزارها. امرأة سوداء، مزقت جسدها طائفية الأعراق، ونسي الجميع، ولو للحظة، أنني امرأة تدفن وليدها جوعاً، وتبكيه بكل ألم وحسرة، كل صباح، وتئنّ تحت لفح شمس حارقة، ورشــاش يدوي في أرضها البائسة.. أنا رمز المرأة الحبشيَّة والبلالية، والمرأة السوداء الماسيــة، التي تغري الرجل الأبيض للتوغل في قفـــاري....).
هذه المعاناة الإنسانية التي تأملتها (هاجر) بعين الإنسانة والصحفية، خلقت لديها، وبالتأكيد لدى القارئ، تساؤلات.. هل من العدل أن يُعاقَب إنسان بسبب لونه أو ملامحه؟ هل يمكن تقييم جنس كامل من خلال لونه؟ ومن هو العدو الذي فعل هذا بهؤلاء البشر لمجرد أن الله ميّزهم بلون وملامح جعلتهم مضطهدين من قوى متخلفة ومتعصبة؟. وهي نفس التساؤلات التي ناقشها (وليام إدوارد بورغاردت دو بويز) عالم الاجتماع والناشط السياسي الأمريكي ذو الأصول الإفريقية، الذي يُعدّ من أهم دعاة الحقوق المدنية المهتمين بشؤون السود في مطلع القرن العشرين، وذلك في كتابه (أرواح الشعب الأسود)، الذي صدر عام 1903، عندما طرح مشكلة (خط اللون)، أو ما يسمّى على حد قوله (حد اللون)، الفاصل بين الشعوب البيضاء والشعوب غير البيضاء ، للوصول إلى تحديد مَنْ يحقّ له العيش ومن لا يحق له؟!. أما في كتابه (الزنجي)، الذي نشر عام 1915، فيتساءل : من هو الزنجي؟ وهل من الممكن تحديد مقاييس عرقية للزنجي، كما يتخيلها البعض: هو ذاك الرجل الأسود ذو الشعر المجعّد.. وهل من الممكن حصر عرق أو شعب في مفاهيم بيولوجية وفيزيائية؟. ويطرح، في كتابه هذا الغاية في الأهمية، تساؤلاً يناقشه من خلال دراسة تحليلية رائعة لكلمة (الزنجي)، كيف أصبح اللون له علاقة بالدونية في العالم الحديث؟! في محاولة منه لتحليل (الدونية الإفريقية)، التي نتجت عن حركة الاستعباد والاستعمار للعنصر الإفريقي.
انتهيت من الرواية، التي جاءت بلغة بسيطة سلسة عميقة، مفعمة بالمشاعر الإنسانية، فتذكرت مقولة مايا انجلو، الكاتبة والشاعرة والحقوقية الأمريكية (تعني الكلمات ما هو أكثر مما خُطّ على الورق، إنه الصوت البشري الذي يضفي عليها معانيَ أعمق بكثير.)، ووجدتني أردد بيت الشعر الذي كان شعاراً لـ(بلانكا): أيتها المرأة الإفريقية، لأنك سوداء، فأنت جميلة وصبورة، ومكافحة وأبيّة



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة