المرأة هي رهان المستقبل لانسنة العالم

قاسم المحبشي
dr.kasem22@hotmail.com

2021 / 12 / 16

على مدى السنوات الماضية حظيت دراسات المرأة والنوع الاجتماعي بالعالم عامة وفي الوطن العربي تحديدا باهتمام مضطرد في مختلف الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية من عدد واسع من الباحثات والباحثين، وهذا ما أفضى إلى تراكم تراث زاخر من الدراسات والإصدارات المتنوعة يمكن الإشارة إلى بعضها: ليندا جين شيفرد, أنثوية العلم, ترجمة يمنى طريف الخولى ـ عالم المعرفة الكويتية عدد 306 أغسطس 2004م، باريرا ويتمر، الانماط الثقافية للعنف، مجلة عالم المعرفة الكويتية،العدد 337. خديجة العزيزي، الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي، تقديم، ناصيف نصار، بيروت، يونيو 2005، أميمة أبوبكر، محاضرات تعليمية في دراسات النوع ؛ كتاب توثيقي، علا ابو زيد، دراسات المرأة في الجامعات العربية؛ الحاضر والمستقبل. أعمال ورشة العمل حول تضمين النوع في المقررات الجامعية ومجالات البحث الأكاديمية أبريل 2005م. قاسم المحبشي، الجنوسية تحولات المفهوم وسياقات المعنى. مجلة كلية الآداب جامعة عين شمس. سهيلة محمود, العنف ضد المرأة أسبابه، آثاره، وكيفية علاجه2018 ، عالية أحمد صالح ضيف الله، العنف ضد المرأة بين الفقه والمواثيق الدولية2010: ميرفت حاتم، نحو دراسة النوع في العلوم السياسية سلسلة ترجمات نسوية. ماري دالي، أشكرك ربي .. لأنك لم تخلقني امرأة ضمن كتاب النوع ( الذكر والأنثى بين التمييز والاختلاف) مقالات مختارة ترجمة محمد قدري عمارة، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ط1 2005م. ماري ولستونكرافت, دفاع عن حقوق المرأة بيار بورديو، الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعفراني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 2009م. نصر حامد ابو زيد، دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة. برنامج دراسة المرأة في الجامعات الأردنية : إنصاف النساء وانخراط في روح العصر، وفاء العرادى ومها غنام, لعنف الأسرى ضد المرأة: دمار للبناء الاجتماعى 2012, حمود العودي، وأحمد شجاع الدين، النوع الاجتماعي المجتمع العربي الإسلامي, جامعة صنعاء 2006م. جوردون مارشال, موسوعة علم الاجتماع, ثلاثة مجلدات, ترجمة محمد الجوهري وآخرون, المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ ط1 2009م. صورة المرأة اليمنية في الدراسات الغربية, المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية, مراجعة وتحرير لوسين تامينيان, ترجمة احمد جرادات صفا 1997م. أنتوني غدنز, علم الاجتماع, ترجمة فايز الصباغ ـ بيروت ـ مركز دراسات الوحدة العربية للترجمة ـ بيروت ـ أكتوبر 2005م. ميليسا هاينز, جنوسة الدماغ, ترجمة ليلى الموسوي مجلة عالم المعرفة الكويتية عدد353 يوليو 2008م. سيمون دي بوفوار, الجنس الأخر, نقله إلى العربية ـ لجنة من أساتذة الجامعة, المكتبة الأهلية, بيروت ط1 1964. إمام عبد الفتاح إمام, أرسطو والمرأة, مكتبة مدبولي ـ القاهرة ط1 1996. دليل مركز المرأة للبحوث والتدريب بجامعة عدن، ورشة تقييم برنامج الدراسات العليا النسوية بجامعة عدن، دراسات المرأة والتحول الاجتماعي جامعة الاسكندرية القطاع الأكاديمي. الخطة الدراسية لدرجة ماجستير دراسات المرأة (مسار الرسالة) الجامعة الاردنية. هدى الصدة، دراسات النوع في العالم العربي؛ تأملات وتساؤلات. هدى علي علوي، تجربة الدراسات النسوية في جامعة عدن نحو التغيير الثقافي.آباش أحمد الأسرة بين الجمود والحداثة. منشورات الحلبي الحقوقية, النسوية والجنسانية. عائشة الناعبي، التطور العلمي لحقوق دراسات المرأة2007م. تاركو وماجريت، النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث.سعد الدين إبراهيم، معوقات تقدم المرأة، مفيدة محمد إبراهيم، المرأة العربية والفكر الحديث، 2000م. ليلى ابو الغد، الحركة النسائية وتطورها في الشرق الأوسط, 1999م. منى ابو الفضل، المرأة العربية والمجتمع في قرن،2002م. عبدالله ابو هيف، الجنس الحائر، أزمة الذات في الحرية العربية2003م. وغير ذلك من الأبحاث والدراسات المنشورة والبرامج العديدة الساعية الى تمكين النوع الاجتماعي في المؤسسات الأكاديمية العربية الراهنة.
أولا: تحديد المفاهيم وتعرفها
تحديد المفاهيم وتعريفها هو الخطوة المنهجية الأولى في الدراسات الإنسانية والاجتماعية؛ ذلك كون مفاهيمها ملتبسة وغامضة على الدوام، لأن موضوعها ذاته متحرك ومتغير باستمرار، " وأشد الأخطار هو خطر الكلمات التي تستثير في أذهاننا جواهر أو ماهيات فكرية مشخصة زائفة تملأ التاريخ كائنات من الأسماء الكلية المختلقة لا وجود لها في الواقع، إذ أن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات وحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية والثقافية المشخصة، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة، وسياق نمو وتجربة وخبرة ممارسة، وعلاقات قوة، ونظام خطاب ومدونة لغة، وفضاء فكر وحساسية ثقافة، وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق تلقي .. إلخ. وتزداد حاجتنا الى التدقيق في المفاهيم المستخدمة في الدراسة النسوية واعادة تعريفها لعدد من الأسباب منها:
اولا: بسبب العولمة وسرعة انتشار الأفكار والآراء والنظريات وترجمتها وترديدها, أصبحنا نتلقف المفاهيم الآتية ألينا من الغرب ونستعملها بدون أن تكن لنا معها وقفه نقدية, إذ عادةً ما يشغلنا المعنى اللغوي للمفهوم وترجمته إلى لغتنا عن فهم السياق الثقافي التاريخي الذي نشأ فيه.

حينما فكرت بالكتابة في موضوع الجنوسية لم أكن على دراية كافية بما أنا قادم عليه, ولكنني اكتشفت في أثناء الانهماك بالعمل إن الأمر أكبر وأعقد وأهم بكثير مما كنت أتصور, إذ وجدت العلاقة بين المرأة والفلسفة هي من بين أكثر الموضوعات مدعاة للدهشة والتأمل والاهتمام, إذ لم يشهد تاريخ الأفكار مثالا لذلك النمط العلائقي المثيرة بما شهده من تحولات ومفارقات وتناقضات, على سبيل المثال لا الحصر:
1- الفلسفة هي أكثر العلوم النظرية قرباً من المرأة من حيث ماهيتها الإنسانية وطبيعتها الأنثوية, محبة الحكمة, وربيبة الدهشة وأم العلوم وحاضنة ومولدة الأفكار والمفاهيم, ورغم ذلك أجبرت على أن تكون ابعد العلوم اغتراباً عن المرأة. وإذ ظلت الفلسفة التقليدية تستبعد المرأة من دائرة اهتمامها انطلاقاً من الثنائية الاعتباطية بين العقل والطبيعة, العقل الذي يمثل (الرجل) الذكر المتطابق مع مفهوم الإنسانية والطبيعة التي تمثل الأنثى الموضوع السلبي, تقول الفيلسوفة المعاصرة شيلارون "المرأة معروضة في التراث الفلسفي التقليدي على انها ليست كائناً إنسانيا بل هي مثل الأشياء الطبيعية لا تتطلع أن تكون ذاتً تتسم بالأخلاقية.
2- وبالمقابل ليست هناك علم من العلوم الإنسانية أشد قرباً وحمميه بالمرأة من الفلسفة, إذ وجدت المرأة الحديثة في الفلسفة الملاذ الآمن والأفق الفكري والفضاء الابستمولوجي الخصيب الذي أشبعت فيه سغبها المعرفي وتعطشها الفكري وتنفست فيه الصعداء وصاغت فيه أسئلتها الميتافيزيقية تقول الفيلسوفة ديريد جالوس " الفلسفة هي النوع الأكثر عمقاً من التفكير الذي نحن مؤهلون له" وحينما نوازن بين طرفي المفارقة, اعني قرب الفلسفة من المرأة واغترابها عنها نلاحظ أن الفلسفة كانت بالنسبة للمرأة في مشروع نهضتها الحديثة والمعاصرة, هي بمثابة القوة الدافعة والسلاح الأمضى في معركتها التحررية, إذ لاحظنا كيف شكلت الفلسفة التمهيد الضروري وكيف كانت الأسس الفلسفية الثقافية المتمثلة بجملة واسعة من الأفكار والمفاهيم: الحق, العقل, القانون, الحرية المؤسسة, الإنسان, الطبيعة الإنسانية, المجتمع المدني, التقدم, العلم, الطبيعة المرأة, ولا اعتقد انه يمكن فهم نهضة المرأة الحديثة بدون فهم الأسس الفلسفية, إذ كانت الفلسفة هي التي أيقظت المرأة من سباتها البطريركي, حينما بدأت المرأة تفكر فلسفيا وكان ذلك منذ عصر التنوير, بدأ التاريخ يبتسم للمرأة, وبدأت المرأة لأول مرة في التاريخ تعي ذاتها الإنسانية وتستعيد هويتها الذاتية الأنثوية, ومنذ الفيلسوفة الانجليزية ماري ولسو لكرافت عام1768م حتى الفيلسوف العربية يمنى طريف الخولي أصبحت المرأة أخيرا وجود لذاته ومن اجل ذاته, بعد أن كانت وجودا في ذاته فقط إي موضوعا للذات الفاعلة الرجل.
تداعت هذه الفكرة إلى ذهني وأنا أتابع حديث فيلسوفة العلم المعاصر يمنى طريف الخولي في مؤتمر الفلسفة والمستقبل المنعقد في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة في المدة 11 - 13 ديسمبر 2021م كانت الجلسة العاشرة ومسك الختام بعنوان ( المرأة والمستقبل) رئستها وادارتها الاستاذة الدكتورة يمنى طريف الخولي وتحدث فيها؛ الأستاذة الدكتورة عزيزة بدر، استاذة فلسفة العلم في جامعة عين شمس عن الفلسفة النسوية ومنجزاتها الابستمولوجية والمنهجية والدكتور آمال رمضان عن فلسفة الجمال النسوي.
كانت جلسة زاخرة بالرؤى والأفكار الجديدة
في مدارات النسوية الصاعدة بعد سقوط المركزية التاريخية الذكورية ومنها؛ مركزية العقل الأفلاطوني ومركزية اليانج الصيني ومركزية الاستعمار الغربي ومركزية الثقافة البطريركية ومركزية الفلسفة الرجالية فيما بعد الحداثة والتعددية الثقافية كما اوضحت الاستاذة يمنى باسلوبها الحميم في ترويض الأفكار المجردة. نعم لقد مضى زمن طويل منذ أن بدأت حياة الكائن الإنساني على كوكب الأرض، لم تكن فيه المرأة "حواء" شيئًا مذكورًا أو جدير بالاعتبار بذاته ولذاته ومن أجل ذاته، بل كان الرجل الذكر هو سيد الموقف، وصانع التاريخ وخليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض، ومبدع الثقافة وباني الحضارة وحامل الأمانة المقدسة، وحافظ الأسرار والمعارف والعلوم والفنون ومروض الوحوش، وصاحب الحكمة والعقل والخلق والدين والملاحم والبطولات؛ إذ كانت كل الصفات الإيجابية التي تدل على الفعالية والقوة والنشاط والإنتاجية والإنجاز والانتصار والعنف والحرب تلصق بالرجل الذي ظل يتربع على مسرح التاريخ الإنساني حتى وقت قريب، وظل مفهوم الإنسان يطلق على الرجل فقط، وكانت كل الكائنات والأشياء والطيبات بما في ذلك الكائن الإنساني الآخر الشبيه به تمامًا - أي المرأة الأنثى - تدور حول فلكه الذكوري وتسخر لخدمته وتخضع لمشيئته البطريركية وعلى مدى ملايين من السنين من تجربة العلاقة الاجتماعية والممارسة التاريخية لحياة الرجل والمرأة ترسخت الهيمنة الذكورية والقيم البطريركية عند مختلف الشعوب والمجتمعات حتى اكتسبت صورة الضرورة الطبيعية البيولوجية والمسلمة البديهية التي لم تعد تثير الشك والتساؤل عن حقيقة مشروعيتها. رغم أننا نعلم أن قصة استبعاد المرأة وتهميشها وقمعها وإقصائها وتحقيرها وسحقها وقهرها وإخفائها من عالم الإنسان "الرجل" يعود إلى جملة من الأسباب والشروط التاريخية والاجتماعية في الأزمنة البدائية جدًا، إلا أن استمرار هذه الحالة المؤسفة حتى العصر الحديث يثير الحيرة والعجب. وهذا يعود في نظرنا إلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك، أو "الهابيتوسات" حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو. يقول عالم النفس التربوي الأمريكي " أرثر كوفر" في كتابه "خرافات في التربية": "يسلك الناس وفقًا لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن شخصًا أمين فسوف أثق به، وإذا اعتقدت أنه غير أمين فلن أثق به. إننا نسلك وفقًا لما نعتقد. وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر" ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره؛ فحينما اعتقد الصينيون أن الكون ينقسم إلى الين واليانج، أي الأنوثة والذكورة (الـ yang يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الإيجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والحياة، والـ yin يرمز إلى الأنوثة العنصر السلبي المنفعل، الأرضي عنصر الظلمة والبرودة والموت). والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون، الذكورة الأنوثة أي اليانج والين. كان من شأن هذا الاعتقاد الأسطوري، أن يعمق الهوة بين الرجل والمرأة ويمنح الرجل الذكر مكانة أرفع من مكانة المرأة الأنثى. وحينما اعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون، وأن الرجل هو الكائن العاقل الوحيد، وأن المرأة كائن حسي غير عاقل، برروا النظرة الدونية للمرأة. وحينما اعتقد العرب قبل الإسلام بأن الأنثى كائن يجلب العار ويضعف الرجال، شرعوا عادة وأد البنات... وحينما يعتقد بأن جسد المرأة وصوتها ووجهها من العورات فلا بد أن تختفي عن الأنظار وتحتجب عن الغرباء من الرجال.
هذا معناه أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة، بل لا بد من الذهاب إلى ما ورائها، من المنطلقات والأسس العقيدية واللاهوتية أو الفلسفية، كما أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة، بل هي نتاج قوى اجتماعية وسياسية وثقافية نشأة وترسخت عبر مسار طويل من الخبرات والتجارب والممارسات في أنماط سلوك وعادات وخبرات أو هابتوس ((Habitus)) عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية.
وحينما سنحت لي الفرصة للتداخل تسألت مع الفيلسوفة يمنى بشأن التباس مفهوم
الجنوسية إذ يعد من أبرز المفاهيم وأكثرها شيوعًا في الخطاب النسوي المعاصر، وهو مفهوم يكتنفه كثير من سوء الفهم والغموض واللبس، ولا يوجد اتفاق بين العلماء والدارسين بشأن تعريفه، ومنذ صياغته على يد عالم النفس الأمريكي روبرت ستولر في الثلث الأخير من القرن العشرين والجدل بشأنه لا يزال مستعرًا، والملاحظ كما يقول عالم الاجتماع المصري محمد الجوهري: "إن الجدل حوله عندما ثار لم يجر في هدوء وموضوعية ولكنه اشتعل اشتعالًا، وأقحمت عليه معتقدات وأيديولوجيات، وربما عواطف أيضًا" وقد تباينت تعريفات وتأويلات الدارسين للجنوسية ودلالاته المفهومية، وإذ استخدمه روبرت ستولر، لتمييز المعاني النفسية الاجتماعية للذكورة والأنوثة عن المعاني البيولوجية. يرى عالم الاجتماع الانجليزي انتوني غدنز، أنه من المهم التمييز بين الجنس والجنوسة، إذ يستخدم علم الاجتماع مصطلح الجنس للدلالة على الفروق التشريحية والفسيولوجية والاجتماعية والثقافية بين الذكور والإناث، أما الجنوسة فتعني الأفكار والتصورات الاجتماعية لمعنى الرجولة والأنوثة وهي بالتالي ليست نتاجًا مباشرًا بالضرورة للجنس البيولوجي لدى الإنسان. ومن هنا فإن الفرق بين الجنس والجنوسة عنصر جوهري في النشاط البشري لأن كثيرًا من الفروق بين الذكور والإناث ليست بيولوجية الأصل. ويعرف جدنز الجنوسية Gender بالقول "هي التوقعات الاجتماعية حول السلوك الذي يعتبر مناسبًا للأفراد من الجنسين، ولا تشير الجنوسية إلى الخصائص البدنية التي يختلف بها الرجال عن النساء، بل إلى السمات التي وضعها وأسبغها المجتمع على الرجولة والأنوثة"وفي موسوعة علم الاجتماع "يشير الجنس Sex عند آن أوكلي - التي أدخلت المصطلح إلى علم الاجتماع إلى التقسيم البيولوجي بين الذكر والأنثى، بينما يشير النوع Gender إلى تقسيمات الموازنة غير المتكافئة اجتماعيًا إلى الذكورة والأنوثة" لكن مصطلح النوع قد اتسع منذ ذلك الوقت ليشير ليس فقط إلى الهوية الفردية وإلى الشخصية، بل وإلى المستوى الرمزي، أيضًا إلى المثل والصور الثقافية للرجولة والأنوثة، ويشير على المستوى البنائي إلى تقسيم العمل على أساس النوع في المؤسسات و"التنظيمات".
أما الأمريكية لوسين تامينيان فقد استخدمت تعبير الجنوسية وقصدت به "مجمل العلاقات ما بين الجنسين، هذه العلاقات التي تشكل بناءً ثقافيًا تاريخيًا يتباين من مجتمع إلى آخر"وفي كتابها أنثوية العلم، ترى فيلسوف العلم الأمريكية ليندا جين شيفرد "أن كلمة Gender تعني النوع أو الجنوسة"، والجنوسة أفضل لأن النوع كلمة فضفاضة ولها مقابلات عدة، ويشير هذا المصطلح لا إلى الفروق البيولوجية (الجنس) فحسب، بل إلى مجمل وخلاصة الأوضاع والخبرات والأدوار المختلفة التي تترتب فقط على أن يكون الرجل رجلًا والمرأة امرأة.
وقد وجهت كثير من الانتقادات لمفهوم الجنوسية، من هذه الانتقادات يمكن الإشارة إلى نقد الأمريكية ميليسا هاينز، في كتابها جنوسة الدماغ إذ قالت: "أن التمييز بين الفروق الجنوسية والجنسية مستحيل لأن هذا التمييز يفترض أولًا أننا نعرف أسباب الفروق السلوكية والسيكولوجية المختلفة بين الذكور والإناث، ثانيًا يشير إلى أن الأسباب أما أن تكون بيولوجية وإما اجتماعية ثقافية، في حين أنها في كثير من الحالات مزيج من الاثنين. ثالثًا أنه يفترض أن العمليات البيولوجية والاجتماعية والثقافية مستقلة بعضها عن البعض الأخر ويمكن فصلها بعضها عن بعض، لكن لكل سماتنا السيكولوجية والسلوكية أساس بيولوجي في دماغنا بغض النظر عما إذا كانت الهرمونات أو عوامل أخرى بما فيها تلك العوامل الاجتماعية هي التي تدفعنا إلى النمو بطريقة معينه... لذا فإن التمييز بين الأسباب البيولوجية والاجتماعية الثقافية هو تمييز زائف" ويعكس عنوان كتابها "جنوسة الدماغ" هذا المنظور؛ إذ أن إضافة لفظة الجنوسة إلى الدماغ توضح أن لا اختلاف بين الفرق الجنسي والجنوسي، فضلًا عن أن كلمة الجنوسة هي ملائمة لوصف العمليات التي تتطور بها الفروق الجنسية في سلوك الإنسان ومعناها كفعل في اللغة الانجليزية أو طبقًا لتفسير قاموس ويبستر هو أن يولد، ينتج أن يسبب الكينونة أو التطور. وفي اللغة العربية تستخدم كلمة "جنس" لتعريف الهوية البيولوجية بين الذكور والإناث، ونستخدم كلمة جنسية لتحديد الهوية السياسية والاجتماعية للأفراد ذكورًا وإناثًا. جاء في لسان العرب لابن منظور "الجنس: الضرب من كل شيء... والجمع أجناس وجنوس... والجنس أعم من النوع، وفيه المجانسة والتجنيس ويقال هذا يجانس هذا أي يشاكله والحيوانات أجناس: فالناس جنس، والإبل جنس والبقر جنس" وقد أثار التمييز بين مفهومي الجنس والجنوسة اعتراضات واسعة من قبل عدد من المفكرات الفيلسوفات أمثال الفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفوار في كتبها "الجنس الأخر" إذ اعتبرت أن المرأة ليست امرأة بالولادة ولكنها تصير امرأة"
واقترحت الفيلسوفة لوسه آريغاري مفهوم مورفولوجي "دراسة البنية أو علم الشكل" بدلًا من التمييز بين الجنس والجنوسة. ويقترح عبد الصمد الديالمي في كتابه (الجنسانية في المجتمع العربي) مفهوم الجنسانية كترجمة لكلمة sexuality وهو مفهوم ينطوي على خمس مستويات: المستوى السيكو ـ فيزيولوجي، والمستوى الرمزي ـ الثقافي، والمستوى النمطي، والمستوى المؤسساتي، والمستوى الأيديولوجي"
وعلى كل حال فأنا اتفق مع الدكتورة العزيزة عزيزة بدر بشأن النتائج المهمة لحركة النسوية الحديثة والمعاصرة ورغم قصر مدة ظهور وتبلور هذا النمط المعرفي الجديد من دراسات المرأة منذ قرابة نصف قرن من الزمن الا انها تمكنت من الانتشار والتوسع الأفقي والعمودي عبر جامعات العالم على نحو مثير للدهشة والاعجاب وهي بذلك تمكنت من تحقيق جملة من الإنجازات أهمها:
اولا: تغيير الصورة النمطية السلبية عن النساء ومن ثم زيادة الوعي والفهم الاعمق بمشاكل النساء وادورهن ومصالحهن في المجتمع.
ثانيا: زيادة ثقة النساء بذاتهن وتحفزيهن على القيام بالأدوار الاجتماعية الجديدة المطلوبة منهن.
ثالثا: تقديم إطار مفاهيمي جديد للعلوم الانسانية والاجتماعية يتسع للنوع الاجتماعي من النساء والرجال على حد سواء.(ينظر، ميليسا هاينز, جنوسة الدماغ, ترجمة ليلى الموسوي مجلة عالم المعرفة الكويتية عدد353 يوليو 2008 ص255).
رابعا: بناء وتأسيس فرع معرفي جديد في العلوم الانسانية والاجتماعية يسمى الدراسات النسوية بما بات يشتمل عليه من تنويعة متكاملة من النظريات والمناهج والانساق العلمية منها: علم اجتماع المرأة الابستمولوجيا النسوية، الفلسفة النسوية، التاريخ النسوي، المرأة والسياسة، أنثوية العلم، (ليندا جين شيفرد, أنثوية العلم, ترجمة يمنى طريف الخولى ـ عالم المعرفة الكويتية عدد 306 أغسطس 2004م ص22)
خامسا: نقد النسوية للنظرية الوضعية، وتأسيس منهجية امبريقية جديدة، تسمى الابستمولوجيا الموقعية النسوية بوصفها نوعًا من فلسفة بناء المعرفة التي تعمل من أجل رؤية العالم وفهمه بعيون النساء المقهورات وتجاربهن من خلال تطبيق هذه الرؤية والفهم على العمل الاجتماعي والتغيير الاجتماعي، أي من خلال التحام المعرفة بالممارسة التي تجمع بين كونها نظرية لبناء المعرفة ومنهجًا للبحث في الوقت نفسه، أي مدخلا لبناء المعرفة ودعوة للفعل السياسي. إن بناء المعرفة من واقع تجارب النساء المعيش، هو القادر على معالجة الخطأ التاريخي، القائم على إقصاء النساء عن مجالات المعرفة السائدة، تقول الباحثة النسوية “باتر يشاهيل كولينيز” إن «التجارب الملموسة للنساء هي التي تقدم المصداقية في ادعاءات المعرفة تلك» وهذا ما استدعى استخدام تقنيات منهجية جديدة، من مثل المدخل التفاعلي الذي يعتمد على مشاركة المبحوثات في صوغ أفكارهن الجديدة التي تعكس تجاربهن وأفكارهن ومشاعرهن، ومن ثَمّ الابتعاد عن المقابلة التقليدية أي أن تكون تجارب النساء المعيشة هي مدخل البحث والدراسة والتوصل إلى المعرفة الجديدة(شارلين ناجي هيسي – بايير- وباتريشا لينا ليفي وآخرون، مدخل إلى البحث النسوي ممارسة وتطبيقًا، ترجمة، هالة كمال، المركز القومي للترجمة، القاهرة2015)
سادسا: تخصيب وتفعيل المعرفة العلمية عامة والعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة بدفقة حيوية جديدة من المناهج والنظريات العلمية الأكثر انسانية،، وهذا ما أفضى إلى تغير ثورى في النظرة إلى العلم بوصفه صنعة إنسانية وإبداعاً إنسانياً، ونشاطاً إنسانياً، وفعالية إنسانية، ومغامرة إنسانية، أو كما أكد مارجوليس في كتابه, علم بغير وحدة : إصلاح ذات البين للعلوم الإنسانية والطبيعة "أن مشاريع العلم هي بصورة حاسمة إنجازات إنسانية، والصفة الجذرية للعلم بعد كل شيء أنه نشاط إنساني .. لذلك فكل العلوم هي علوم إنسانية من زاوية إنجازها الفعلي، فلا يمكن تعيين خصائصها بمعزل عن ملامح الثقافة الإنسانية والتاريخ الإنساني واللغة الإنسانية والخبرة الإنسانية والاحتياجات والاهتمامات الإنسانية"( يمُنى طريف الخولي, مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها, دار الثقافة,القاهرة, 1990)وحينما تكون الفلسفة النسوية مع فيلسوفة العلوم يمنى طريف الخولي فهذه يعني أن الفلسفة في بيتها الأصلي



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة