الرّقمنة والفاعلية النسويّة: واقع وإكراهات

بشرى اقليش

2022 / 5 / 11


الحديث عن الرقمنة بداية يحيلنا على ثورة رقمية، هي نتاج التطور السريع لتكنولوجيا الإتصال، ومن ثمة أصبحنا أمام أساليب جديدة للإتصال والتواصل وتبادل المعلومات، الأفكار، المعارف،الأطاريح…،إننا إزاء عصرنة آليات وأدوات التواصل.

هذا الزخم الرقمي المرتبط بالتكنولوجيا المتطورة، سيطرح كإشكال مع هذا الغزو العنيف،إن جاز القول، لشبكة الأنترنت والوسائل المتعددة فيما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي. من هنا تركيزي على العلاقة الملتبسة بين العناصر الثلاثة للعنوان:الرقمنة، المرأة، الفاعلية.

فمن جهة، علينا استخلاص أثر الرقمنة على قضايا المرأة ككل. ومن جهة ثانية، رصد علاقة المرأة بالرقمنة. ومن جهة ثالثة، الحديث عن فاعلية المرأة ببعدها الإيجابي. في وقت كل التمثلات والأحكام تنظر بشكل سلبي أو متحفظ-في أحسن الأحوال- لهذا العالم الجديد، الذي كسر مبادئ التواصل والعمل والإتصال التقليدية. بل جعل المرأة تتحرر ولو إفتراضيا. وفوق هذا التحرر الإفتراضي، أن تكشف عورات المجتمع الذي شرعت أبوابه أمام الجميع، وأصبح عاجزا عن ما يسمى سوسيولوجيا بالضبط الإجتماعي؛ يعني مختلف القوى التي يمارسها للتأثير على أفراده، من عرف وتقاليد وأيضا أجهزة، يستعين بها لحماية مقوماته من الإنحراف والعصيان والتمرد. هذا الضبط الإجتماعي، ستنفلت منه وسائل التواصل الإجتماعي، لنكون أمام الإنحراف والعصيان والتمرد.

المفارقة، أن الرصد- رصد أثر الرقمنة على قضايا المرأة- سيطال فقط الشق السلبي. ونادرا ما نجد من يمدح فضل الرقمنة في توسيع مجال الحوار، التواصل، الإنفلات من القيود بالمعنى الإيجابي، القدرة على خلق فضاء إعلامي خاص، إن جاز القول. وقليلا ما نجد دراسات تتناول دور تكنولوجيا الإتصالات والمعلوميات في الدفع بالمرأة نحو إثبات وجودها سياسيا وفكريا واجتماعيا. بالرغم من أن آليات الضبط الإجتماعي تساعد على تهميشها لا الرقي بها. فهناك من يعتبر انفتاح المرأة على وسائل التواصل الاجتماعي مثلا، نوعا من الانحلال واللامسؤولية والإنفتاح غير المحمود. بل إن حضور ظاهرة التحرش مثلا بالمرأة بوسائل التواصل الاجتماعي، دليل على إن الذهنية العربية لازالت ترفض رؤية المرأة خارج الإطار التقليدي الذي رسمته الأعراف، ولا علاقة له لا بالقيم الأخلاقية ولا الدينية. لهذا يمكننا القول، إن عوالم الرقمنة عرت المسكوت عنه في قضايا المرأة. وكشفت أيضا تمثلات الرجل خاصة في عالمنا العربي، لأسئلة حرية المرأة، والمساواة، وإنسانية المرأة…، وغيرها من القضايا التي ترتبط بوضع المرأة العربية عموماً.

لهذا اخترت عنوان، “الرقمنة والفاعلية النسوية:واقع وإكراهات. ولأقف كما أشرت عند المحاور الثلاثة:

1- أثر الرقمنة على قضايا المرأة: إذا كان الرقي بوضع المرأة، من أهداف التنمية المستدامة، وذلك بتمكين المرأة من المشاركة في كل الميادين، خاصة بالبلدان النامية. فإن عوالم الرقمنة فتحت الآفاق أمام المرأة لفرض ذاتها ككفاءة وفاعلية. بل إن المرأة استطاعت أن تتجاوز العديد من المشاكل خاصة الإقتصادية منها. صحيح أن المطمح يبقى دائما تحقق المساواة بين المرأة والرجل. لكن على الأقل هناك من اقتحمن العوالم الجديدة بإكراهاتها لحل مشاكلهن على الأقل؛خاصة النسوة اللائي اضطررن للإشتغال من بيوتهن. وهو الأمر الذي لا يمكن تحققه بعيدا عن المد التكنولوجي.وإن تعذر الوقوف عند بعض المهارات ومضمون العمل، فإن ما يهمنا هو الإعتماد على الذات وتجاوز السلطة الذكورية، بل الإكراهات عموما. لأنه أحيانا موانع تحقيق المرأة لذاتها تكون ذاتية.

أيضا أضحت وسائل التواصل الإجتماعي، على سبيل المثال، وسيلة لفضح العنف الممارس على المرأة؛ سواء العنف الأسري، أو بالعمل، أو بالشارع…، وهذا في حد ذاته مكسب لا يمكننا تجاهله. بل وأيضا العنف الممارس عليها بمواقع التواصل الاجتماعي. لأن هذه الفضاءات تفضح حمولة الشخص الأخلاقية والفكرية. بما فيها نظرته إلى المرأة. من هنا ضرورة تسليط الضوء على مشكل التمييز وعدم المساواة والنظرة الدونية التي كرستها التمثلات العامة للمرأة.

2- علاقة المرأة بالرقمنة: في هذا الشق بالضبط، يمكنني القول إن التمييز القائم بعالمنا العربي بين المرأة والرجل، يتبدى جليا في تعاطي كلاهما مع الوسائط الرقمية. ففي الوقت الذي تراهن فيه الدول المتقدمة على المنصات التكنولوجية للرقي بكافة المجالات خاصة الإقتصادية-على إعتبار إن الإقتصاد لغة العالم الجديد- لازلنا نحن نعاني تفاوتا بين المرأة والرجل في إعتماد الوسائط الرقمية التي لا زال ينظر إليها لدى الغالبية، ومن الجنسين، إنها وسائل ترفيه، وليست وسائل للعمل أو التعلم أو التواصل المعرفي، بل الديني والحضاري.

والأكثر من هذا وذاك، أضحى الرهان على الرقمنة لتطوير المهارات الإجتماعية، من خلال محو الأمية الرقمية، ومساعدة المرأة على التعلم والعمل.

والجميل إن المرأة أثبتت مهاراتها. لكن وللأسف الشديد، وكما أشرت سابقا،البيئة الإجتماعية تحول أحيانا دون إقدام المرأة على هذه العوالم بشجاعة. ولا نحتاج هنا إلى التأكيد على إننا في الوقت الذي ندافع فيه على البنى الإجتماعية والإقتصادية التقليدية، فإن العالم اليوم يراهن على تكنولوجيا المعلوميات والإتصالات باعتبارها أساس الإقتصاد العالمي الجديد. لأنها تزيد فرص العمل وتسهل ظروفه. ما يعني إنه بإمكان المرأة إستثمار قدراتها باستثمارها لهذه الآليات المرتبطة بالرقمنة. بل الأكثر من هذا تشير أغلب الدراسات السوسيولوجية بأن الإقتصاد الرقمي سيجعل المرأة تتجاوز كل الإكراهات التي تعانيها في أسواق العمل التقليدية، خاصة بالبلدان النامية التي تعاني فيها المرأة مشاكل بخصوص القيود المفروضة عليها؛القيود المرتبطة مثلا، بمواعيد العمل وغيرها. فالمرأة اليوم يمكن أن تشتغل عن بعد. فهي صيغة يمكن أن يندثر معها عائق نوع الجنس، مادامت الدول النامية عاجزة عن تجاوز هذا الإشكال، على الأقل إلى حدود الآن.لأنه لدينا أمل في تحسن النظرة إلى المرأة واسترجاع انسانيتها يوما.

تشير الدراسات المنجزة أيضا، أن الفجوة كبيرة بين المرأة والرجل في التعاطي مع عوالم الرقمنة. فتقرير الإتحاد الدولي للإتصالات إلى حدود عام 2020،أشار إلى التفاوت بين الذكور والإناث في إستثمار الأنترنيت واعتماد الرقمنة، حيث إن إستثمار النساء للرقمنة أقل من الرجال بنسبة 17/٠،وبالبلدان النامية أكثر. لهذا فإذا كنا يوما ننادي بمحو الأمية، فإننا اليوم مطالبون بمحاربة الأمية التقنية التي ستعزل المرأة تماما كما عزلتها الأعراف والتقاليد.

3- فاعلية المرأة: بعيدا عن الوضع المأزوم، قريبا من اشعاعات الأمل، يمكننا القول إن كل هذه الإكراهات لم تمنع المرأة العربية والمغربية على وجه الخصوص، من أن تفرض وجودها حتى إن جل الدراسات تعتبرها مخزونا ضخما لليد العاملة الماهرة، وفق متطلبات الإقتصاد الرقمي. وأيضا كفاعلية معرفية استطاعت أن تنافس الرجل حضوره واحتكاره عوالم المعرفة. خاصة مع ظهور العالم الإفتراضي والعمل الإلكتروني وكل التسهيلات. بل إننا أمام تحقق أغلب الأهداف،منها تحقق المساواة على الأقل الأنشطة المعرفية بشكل متكافئ مع الرجل. بل وتحقق نوع من الإنسجام بين الحياة العملية والحياة الأسرية، الشيء الذي سيدحض نظرية:”نجاح المرأة المهني على أنقاض الأمومة والاستقرار الأسري”.ليثبتن أنفسهن فكريا و معرفيا ومهنيا، وليستفيد منهن جمهور واسع. والتهميش الذي عانته واقعيا استطاعت تجاوزه إفتراضيا، نزد على هذا تفوقها في المجال العلمي والمهني على مستوى إعتماد الرقمنة. بل حتى في المهن التقليدية والتجارة مثلا، لنا أن نلمح فاعلية المرأة واقتحامها سوق الشغل، ما انعكس على مستواها المادي وعلى دورها داخل الأسرة.

صحيح أن حضور المرأة على مستوى مواقع صنع القرار والسلطة لازال محتشما، وكذلك لازالت ضحية اللامساواة والتهميش والفقر، لكننا نلامس شيئا من تقلص الفوارق. نحتاج فقط لمحاربة التمثلات العامة والأحكام المسبقة حول هذا العالم الجديد. نحتاج أيضا مضاعفة الجهود لأجل تمكين كل النساء خاصة بالعالم القروي. وهو جهد مؤسساتي أكيد، من هنا ضرورة إقحام هذا المطلب للمطالب القائمة.

المغزى، عدم الاستسلام لواقع الابتذال، والأزمة القيمية التي هي نتاج عوامل شتى:أمية، فقر، المادية التي طبعت حياتنا كنتيجة سلبية للنظام العالمي الجديد، سيادة الأعراف عوض الأخلاق…

وأن نستوعب أن تنمية المجتمعات العربية لا تهم الشق الإقتصادي فقط، بل أيضا الجوانب الإجتماعية، لأجل تحقق مجتمع متجانس على الأقل بين خطواته التنموية الإقتصادية، و”صناعة” الكفاءات الفردية، مهنيا وانسانيا، لأجل مجتمع متحضر. وهذا المقصود بالتنمية البشرية، التي هي الرهان الأساسي للبلدان النامية، وبتعبير أدق البلدان المتخلفة. وهذا التخلف هو ما أنتج لنا الابتذال والجهل الرقميين. فلا مجال إذن للاستغراب من هذا الكم من الانحلال الإفتراضي، الذي يعكس واقع مجتمعاتنا. وفي المقابل لا ضير من أن نشيد بالجهود الساعية لاستثمار مشرف لعوالم الرقمنة.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة