مشكلة الزي بين المرأة العصرية والمؤسسة الدينية التقليدية

رسلان جادالله عامر
ruslanamer2015@gmail.com

2022 / 6 / 16

من الطبيعي أن ينشأ الكثير من التناقضات بين العصرنة الحديثة والتقاليد الدينية الناشئة في الأزمنة السالفة، ومن المؤكد أن خلافات عديدة ستقع بين ممثلي العصرية والمؤسسة الدينية التقليدية التي تقوم بمهمة المحافظة على هذه التقاليد، وقضية المرأة هي من أكثر الأمور حساسية في هذه الخلافات، وبالأخص اختلاط المرأة بالرجل ولباسها في الأماكن العامة أو حتى في الأماكن الدينية نفسها.
ومع انتشار التقاليد الحديثة والأزياء الحديثة، ظهرت مشكلة جدية بين المرأة العصرية والمؤسسة الدينية التقليدية بشأن زى المرأة سواء في المجتمع ككل أو داخل المؤسسة الدينية نفسها، والمقصود بداخل المؤسسة الدينية هو "الحيز الديني الحصري" الذي يعني الاشتراك أو الحضور في أية فعالية أو نشاط دينيين أو التواجد في أي مكان أو مرفق ديني.
هذه المشكلة حتى اليوم تختلف في العالم العربي بشكل كبير بين منطقة وأخرى وبين وسط اجتماعي أو ديني وآخر، ففي الوقت الذي لم تبدأ فيه بعد بالظهور ولا يستقرب ظهورها في بعض المناطق والأوساط، فهي قد بلغت مستوى المشكلة الفعلية في سواها، ورغم ذلك فهي آخذة في النمو، وهي لا تتعلق بجهة أو جماعة واحدة حصريا، وهي تتطور باتجاه يجعلها أكثر عمومية وأكبر حجما بنفس الوقت.
وفي هذه المقالة سيتم التركيز على مشكلة زي المرأة داخل الحيز الديني بشكل رئيس لأنه الأكثر حساسية وخلافا بين المرأة العصرية ومؤسستها الدينية.

*

عندما تريد البرتقال، فمن غير المعقول أن تريده كبرتقال أو لأنه برتقال وتطلب منه أن يكون بمواصفات التفاح، فإن لم تكن ترضى بالشيء كما هو في طبيعته، فدعك منه واذهب إلى سواه ذي المواصفات التي ترضيك!
واليوم كثيرا ما تظهر إشكالية بين معايير الحشمة في المؤسسات الدينية التقليدية على اختلافها وبين الأزياء النسائية الحديثة، وليس من النادر أن يتطرف الطرفان، فيذهب بعض رجال الدين التقليديين إلى وجوب تغطية المرأة بالكامل كي لا تغوي الرجال، فيما تطرح بعض النساء المتطرفات في عصريتهن حق المرأة بأن تتـزيا بأي زي تريد مهما كان قصيرا أو كاشفا للمفاتن، ويقلن أن انعكاس ذلك على الرجال ليس مشكلتهن، وأن على الرجل نفسه أن يغض بصره إذا كان لديه مشكلة إثارة مع زيهن هذا! ولا يتوقف الأمر هنا، بل أنّ بعضهن يردن فرض هذه المعايير حتى على المؤسسة الدينية التي يتـّبعنها نفسها، بحيث يذهبن إلى المناسبات الدينية والأماكن الدينية وحتى دور العبادة نفسها بالملابس القصيرة والكاشفة، رافضات في ذلك اعتماد معايير مختلفة للحشمة داخل وخارج المؤسسة الدينية، ومعتبرات أن أزياءهن محشومة أينما كانت، وبالتالي فعلى المؤسسة الدينية أن تقبل بهذه الأزياء داخلها كما هي مقبولة خارج هذه المؤسسة!
بالطبع من حق المرأة التام أن يكون لها حريتها في الملبس، وألا تخضع لأي فرض أو قسر في ذلك من قبل أحد، هذا من حيث المبدأ، ولكن هذا المبدأ لا يصبح واقعا إلا بقدر ما يكون المجتمع الذي تعيش فيه المرأة مستعدا لقبوله؛ هذا من ناحية المرأة، أما من ناحية المؤسسة الدينية، فإن كانت المرأة العصرية ترفض أن تحدد لها المؤسسة الدينية معايير ملزمة للحشمة في المجتمع، فمن المنصف بالمقابل أيضا ألا تسعى المرأة العصرية بدورها لفرض معاييرها الخاصة للحشمة على المؤسسة الدينية، وعندما تدع المؤسسة الدينية المرأة تتـزيا بما تريد في المجتمع، ولكنها تطلب منها معايير لباسية خاصة داخل المؤسسة الدينية نفسها، فهذا من حق هذه المؤسسة، بشرط ألا تتطرف في ذلك، والتطرف هنا يعني أن تطلب المؤسسة الدينية من المرأة أن تغطي من جسدها أكثر مما تطلبه من الرجل في ذلك؛ لكن أن تصر المرأة على ارتداء الملابس المثيرة والمغرية داخل المؤسسة الدينية وتقول أن على الرجل أن يغض النظر، فهذا تطرف أيضا من قبل المرأة، وهو تطرف نسوي لا يختلف عن التطرف الذكوري الذي يريد حجب المرأة بالكامل ويعفي الرجال من مسؤوليتهم الخاصة المسماة دينيا بـ "غض النظر"، فإن كانت مثل هذه المرأة تريد دينها الخاص وفق معاييرها الخاصة، فلتمارسه إذا بشكل خاص، وليس من خلال مؤسسة دينية عامة، أما إذا كانت تريد ممارسة دينها من خلال مؤسسة عامة، فمن غير المنطقي ومن غير المنصف أن تحاول فرض معاييرها الخاصة على هذه المؤسسة، وعليها أن تصل معها إلى حل وسطي يرضي المؤسسة ويرضي المرأة، كأن تعاملها المؤسسة في مسألة اللباس كما تعامل الرجل، لا أكثر ولا أقل!
أما في ما يتعلق بمسألة إغواء الرجل، وهذه المسألة يصبح لها حساسية عالية داخل المؤسسة الدينية، فالمطلوب من المرأة أن تعي أن الغريزة تتصرف بشكل أعمى، وإن كان تصرفها هذا بدوره يتأثر فعليا بشكل العلاقات الجنسية السائدة في المجتمع، وعموما مهما كان الرجل متدينا أو مثقفا، فرؤيته امرأة في مظهر مغر ستغريه حتما، وليس من العدل هنا الطلب منه وحده أن يغض بصره، لأن التطرف في هذا الموقف سيعني نظريا- وربما عمليا أيضا في ظرف ما أو زمان ما- أنه يمكن للمرأة أن تتعرى تماما وألا تتحمل أية مسؤولية عن إغواء الرجل.
بالطبع ليس مطلوبا من المرأة بتاتا أن تتغطى بالكامل لتبدو وكأنها كيس محشو ملفوف ما لكي لا تغوي الرجل، فهذا اعتداء ذكوري صارخ على المرأة والأنوثة، ودوس على القيم الجمالية والأخلاقية، واستهتار بالحق والعدل، والحل العادل هنا يقع في الوسط، فإن اعتدلت المرأة في الملبس، تكون قد قامت هي بدورها بالشكل الكافي، لكن مفهوم الاعتدال في الملبس بحد ذاته قد يكون مفهوما صعب التحديد، ولا يمكن إعطاؤه معيارا مطلقا، ولكن عموما يمكن القول أن معايير اعتدال المرأة في السلوك العام وفي العلاقة مع الرجل، تنطبق عليها نفس معايير اعتدال الرجل، وليس مطلوبا منها قطعا وهي غير ملزمة بتاتا بأن تغطي من نفسها أكثر مما يغطي الرجل من نفسه، ومن يريد أن يلزمها أو يرغمها على أكثر من ذلك بذريعة أنها "كلها عورة"، فالعورة الحقيقية هي في عقله وضميره ووجدانه، وحجمها يتطابق تماما مع القدر الذي يرى فيه المرأة عورة!

وبعد ما تقدم.. تبقى مسألة تستحق الطرح، فماذا عن "إغواء الرجل للمرأة"؟!
هذا الموضوع غالبا ما لا يتم طرحه، وذلك لأن الرجال هم المسيطرون على المجتمع، وبالتالي فهم يتحدثون فقط عن مشاكلهم الذكورية، ويطلبون، بـل يفرضون حلولا تتناسب مع مصالحهم الذكورية، فإن كان المتطرفون الذكوريون يريدون حل مشكلة "إغواء الرجل من قبل المرأة" على حساب المرأة بالكامل، ويفرضون عليها الغطاء والاحتجاب الكاملين، فماذا إذا عن "إغواء المرأة من قبل الرجل"؟ أفلا يحق لها هي الأخرى مثلا أن تطالب أيضا بفرض غطاء كامل على الرجل لكي لا يغويها، أم عليها وحدها تقع ضريبة الحل هنا أيضا، وعليها بالتالي أن تعتزل هي نفسها الأماكن العاملة وتقبع سجينة داخل منزلها كي تبتعد عن إغواء الرجال لها؟ وهنا أوليس بمقدورنا أن نتخيل دون الخروج من نطاق المنطق أنه لو انعكست الآية وكانت النساء هن المسيطرات في المجتمع، فربما كانت مؤسسة دينية نسوية محافظة ومتطرفة ستقوم عندئذ بتحجيب الرجال وإلزامهم ببيوتهم كي لا يغووا النساء ولا تغويهن النساء، وربما كان الرجل عندها هو من سيُعتـَبر "عورة.. وربما كله عورة أيضا"؟
يبرر الذكوريون موقفهم من مسألة إغواء الرجل للمرأة عادة بأن الرجل لا يثير المرأة كما تثيره هي، ما يعني عدم ضرورة تغطيته كله! وبالتأكيد ثمة فوارق هامة في آلية حدوث الاستثارة الجنسية عند الجنسين، ويرى الكثيرون بأن الاستثارة عند المرأة أبطأ ولكنها أدوم، وقد شبه الصينيون القدماء مثلا استثارة الرجل باشتعال النار وانطفائها السريع، واستثارة المرأة بسخونة الماء الذي يسخن بالتدريج ثم يعود فيبرد أيضا بالتدريج ويستغرق وقتا أطول من النار في كلتا الحالتين، لكن حتى إن كان الأمر كذلك، فهنا يصبح من الضروري السؤال عن دور "التراكم" في المسألة، فالمرأة التي لا تعيش حياة جنسية ناشطة بالقدر الكافي لتلبية حاجتها، مهما كانت بطيئة في استثارتها، ستكون دوما في حالة احتياج للجنس، لأنه لديها حاجة طبيعية غير ملبّاة، مثلما هو الحال عند الرجل الذي لا يقوم بالنشاط الجنسي الكافي، ولذا في المجتمع المحافظ المكبوت جنسيا ستكون هذه المرأة مثل هذا الرجل في حالة استعداد كبير دائم للاستثارة الجنسية، كما هو حال الجائع الذي قضى فترة طويلة بلا طعام.

ختاما.. ولكي لا يساء من قبل البعض فهم ما يريد قوله بالضبط هذا المقال، الذي يناقش بشكل رئيس مشكلة زي المرأة العصرية داخل المؤسسة الدينية التقليدية في نطاق واقعية العلاقة بين الطرفين، يجدر القول أن المقال هنا يتعامل مع الواقع الراهن كواقع فعلي، وفي هذا الواقع تشكل المرأة والمؤسسة الدينية طرفين كبيرين من الأطراف، وتقوم بينهما واحدة من أكثر العلاقات حساسية بين العلاقات في هذا الواقع، ومسألة لباس المرأة هي بدورها أحد النقاط الأكثر حساسية في هذه العلاقة، ولاسيما داخل الحيز الديني نفسه، ما يقتضي تسليط الضوء عليها ومناقشتها بروية!
أما بشكل عام، فهذا المقال لا يتبنى أية منظومة أو مواصفات محددة لمعايير اللباس والحشمة، التي يجب منطقيا اعتبارها معاييرا نسبية قابلة للاختلاف من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى مجتمع وبين فرد وفرد، واللباس أو الزي اللذان يختارهما الإنسان، سواء كان رجلا أم امرأة، بإرادته الحرة وقناعته الواعية كإنسان عاقل حر، اختيارهما من قبله هو حق وحرية حقيقيان من حريات وحقوق هذا الإنسان أيا كان هذا الزي، وأخلاقية هذا الزي تتحدد من خلال أخلاقية هذا الإنسان العاقل الحر نفسه، لكن إن كان الأمر على هذا الحال من الناحية المنطقية والعقلانية، فللواقعية أيضا أحكامها وشروطها، التي كثيرا ما تختلف عن أحكام وشروط المنطق، ولذا فمن العقلانية أيضا التصرف بواقعية ومراعاة ظروف الواقع، فحريات وحقوق الإنسان هي ليست مسألة فردية، ولكنها علاقة ثنائية بين الفرد والمجتمع، ولا يمكن لهذه الحريات والحقوق أن تتحقق بشكل حقيقي إلا بقدر ما يكون المجتمع نفسه متحررا، هذا من ناحية، ولكن من ناحية ثانية أيضا على الفرد المتحرر الذي يعي حرياته وحقوقه أن يدرك أن هناك مختلفين عنه، لديهم هم أيضا حقوقهم وحرياتهم المماثلة، وليس من حقه في أي موقف أن يفرض عليهم معاييره الخاصة في أية مسألة، بل من واجبه أيضا أن يحترم اختلافهم وحقهم بأن تكون لديهم خصوصياتهم الخاصة كما لديه هو نفسه خصوصيته الخاصة، وإلا فلن يكون فعليا إنسانا عقلانيا وحرا وصاحب حق ونصير حق، ولن يكون من الأحرار الحقيقيين الذين يعترفون بالاختلاف ويحترمون الاختلاف، بل سيكون من الإلغائين الذين يلغون الآخرين عبر عدم الاعتراف بخصوياتهم الخاصة وفرض البدائل عليهم.
وإذا ما عدنا إلى مشكلة الخلاف حول الزي بين المرأة العصرية والمؤسسة الدينية التقليدية، ونظرنا إليها كقضية اختلاف، فهنا يمكن القول أن على كل طرف أن يعتبر الآخر طرفا مختلفا عنه، ويعترف به ويحترم اختلافه، وبالتالي لن يكون من حق المؤسسة الدينية التقليدية أن تفرض معاييرها الخاصة على المرأة في المجتمع في الزي أو سواه، فهذا نطاق عام يحق للمرأة أن يكون لديها فيه معاييرها الخاصة في مجال الزي وسواه، لكن بالمقابل، مسألة الزي داخل المؤسسة الدينية هي مسألة خاصة بهذه المؤسسة، ولا يحق لأحد أن يفرض معاييره الخاصة فيها أو يرفض معايير المؤسسة الدينية فيها، طالما أن هذه المؤسسة لا تفرض على أحد أن يصبح عضوا فيها، والعضوية فيها مسألة حرة، وبالتالي.. على المرأة العصرية عندما تذهب إلى مؤسسة دينية أن تلتزم بشروط هذه المؤسسة أو تتركها وشأنها وتذهب إلى سواها إن شاءت، ومع ذلك فهذا لا يمنع حق هذه المرأة بنقد هذه المؤسسة، وحق هذه المؤسسة بالرد والنقد المعاكس، والنقد بالطبع يختلف جذريا وكليا عن الإلغاء وفرض الذات على الآخر، والأمر ببساطة يشبه أمر المزارع الذي ينتج البرتقال، أو ينتج برتقالا من نوعية ما، وعلى من لا يريد البرتقال أو يريد صنفا آخر منه أن يدع هذا المزارع وبرتقاله، ويذهب إلى سواه، والحالة الوحيدة المقبولة للتدخل هي فقط عندما يكون البرتقال المنتج من قبل هذا المزارع سيئا، فهنا فقط يكون مقبولا السعي لإلزامه بالمواصفات الصحيحة أو بالتوقف عن الإنتاج.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة