جدلية الإجهاض في عالم التطرف والاستقطاب

كلكامش نبيل
the_sumerian_king_7_8_1988@yahoo.com

2022 / 6 / 28

قبل سنوات، وأيام الدراسة في كلية الطب في القاهرة، تحدث أحد أساتذة مادة النسائية والتوليد عن الإجهاض وكان يرفض ذلك بشكل قطعي، حتى في ظل وجود أسباب طبية. تجادلت معه بهدوء وبشكل محترم مدافعًا عن الإجهاض، فصرخ بحدّة وأدان الجيل الجديد ذي الأفكار "الضالة". طلبت مني بعض الزميلات السكوت وتمرير الأمر بسلام لأنه ألقى بعصبية بقلم الماجيك الذي يستخدمه للكتابة على اللوح باتجاه الحائط في نهاية الفصل.

في تلك السنوات، كنتُ مساندًا للإجهاض بدون قيد أو شرط وبدون وجود أي مسببات، وقد تجادلت مع أستاذة أخرى لمادة الطب العدلي بخصوص رفضها للبنوك المنوية للإنجاب بدون زواج، وفي مرّة أخرى دخلت في جدل مع أستاذ باطنية بخصوص القتل الرحيم Euthanasia وكانت المفاجأة أنه لم يسمع به من قبل واستهجن الفكرة تمامًا. في تلك السنوات، كنتُ أثني على موقف الصين التي تسمح بالإجهاض بدون قيود وبموقفها في السماح بإجراء تجارب على الأجنة ودور ذلك في تطوير أبحاث الخلايا الجذعية، بخلاف الدول الغربية التي تمنع ذلك في الغالب.

كان ذلك موقفي حتى عامين، وأذكر أنني خضتُ كليبرالي متطرف نقاشًا مع صديقة عزيزة ترفض الفكرة وتراها قتلا مدفوعة بإيمانها الكاثوليكي. في تلك المناقشة قالت لي مستغربة: تدافعون عن حقوق الحيوانات وتدعون لتبني النظام الغذائي النباتي رحمة بالحيوانات ولكنكم تدافعون عن قتل الأجنة. في تلك اللحظة، شعرتُ أن هناك غرابة في موقفي، لأنه لم يكن دفاعًا عن حق المرأة في خيار الحمل فحسب، بل ترويجا مستميتًا للإجهاض بهدف تقليل السكان، وهناك فرق في الأمرين، أي بين الدفاع عن حق والترويج المهووس لأمرٍ ما.

الآن، يدور جدل كبير في الولايات المتحدة وأوروبا بعد إصدار المحكمة العليا في الولايات المتحدة قرارًا بإلغاء حق الإجهاض في الأسابيع الستة الأولى والمُقر منذ العام 1973. بالطبع، القرار ألغى الحق على المستوى الفيدرالي ولكن من حق الولايات المنفردة تنظيم الأمر وفق قوانين خاصة، ولكن هذا يعني منعه أو تقييده بشدة في أكثر من نصف الولايات الأميركية. بالطبع، تشهد الولايات المتحدة هجمات مسلحة أحيانا على عيادات الإجهاض من قبل أطراف متدينة، وهناك جدل آخر حول الموضوع لسبب اقتصادي يتعلق بتغطية التأمين الصحي لتكاليف هذه العمليات.

راقبتُ ردود الأفعال من قبل الأطراف المحافظة في الولايات المتحدة، وإذا بها تفرط في تمجيد ترامب وتصوّره كمنقذ ومخلص للأطفال من شياطين "الليبرالية" و"النسوية" – الذين صورتهم كملائكة موت تفتك بالأطفال. تجاهل المحافظون هنا أن للإجهاض أسباب كثيرة مشروعة وليس كل إجهاض عملية قتل، ويشابه تطرفهم في الرفض هذا، تطرف الطرف الآخر (النسويات مثلا) في الدفاع على الإجهاض بدون قيد أو شرط (وهو موقفي السابق) في تقديس للجسد والحرية الشخصية على حساب أي شيء آخر.

في مثال على شيطنة الطرف المحافظ من قبل العلمانيين، أرسل لي أحد الأصدقاء المسلمين صورة لصحيفة Le Temps السويسرية الناطقة بالفرنسية وهي تصوّر المحكمة العليا للولايات المتحدة تعلن (نهاية حق الإجهاض) وقد هيمن عليها أشخاص مسلمون (من حركة طالبان وربما إيران أيضًا) وهي بلا شك محاولة لشيطنة الطرف المعادي للإجهاض وحصره بما قد تمت شيطنته بشكل راسخ (الإسلام)، مع أن الكنيسة في الواقع ترفض الإجهاض وهناك أطراف إلحادية قومية ترفض الإجهاض لأسباب أخرى سنأتي على ذكرها. ليس كل من يرفض الإجهاض مسلما، هناك مسيحيين ويهود وملحدين. حصر الموقف بالمسلمين يعني حكما بأن كل المحافظين اليوم مسلمون وهذا غير دقيق أبدًا.

كخريج طب، أرى أن هناك مبررات بلا شك تبيح الإجهاض، وأن صحة الأم أولوية لأنها إنسان بالغ مقارنة بجنين في طور التكوين. في رأيي الشخصي (وأقصد أن مرتكزاتي أفكاري فقط على الطريقة الليبرالية)، يمكن الإجهاض في حالات يكون فيها استمرار الحمل خطرًا على صحة الأم، وحالات التشوهات الخلقية للجنين، وحالات الأمراض الوراثية، وحالات الإغتصاب وعدم الرغبة في الجنين نتيجة ذلك، وفي جميع الحالات بدون سبب حتى وقتٍ معيّن من الحمل (تحدده كل دولة وفق رؤيتها) لأننا لا نتفق علميا حول تعريف الحياة ومتى يصبح الجنين طفلا وإن كان ذلك بتكون جهاز الدوران والقلب أو بتكامل جهازه العصبي، أو أنه حي منذ اليوم الأول كما لو كانت خلية أحادية حية ما دامت تنمو. مع ذلك، اندفعت بعض النسويات في التطرف للدعوة للسماح بقتل الطفل حتى بعد ولادته بساعات في إعلاء لحرية الأم على حياة الجنين. برأيي، لا يمكن تجاهل كل هذه الأسباب وإصدار قرار عام يمنع الإجهاض.

من وجهة نظر رأسمالية متطرفة، وأنا رأسمالي التوجّه ولا أحبذ الإشتراكية مطلقًا، أعتقد أنهم يفضلون المرأة العاملة على الحامل وهذا يعود جزئيا إلى الرغبة في إغراق السوق بالعمال (من الجنسين) وتخفيض أجورهم، ولا يفضل الرأسمالي دفع إجازة أمومة لعاملة لا تعمل، وهذا ما يفرض على العديد من النساء في الغرب تفضيل عدم الارتباط وعدم الإنجاب بهدف الحفاظ على مصدر دخلها (دون أن تدرك ذلك) وهذا ما سبب تراجعًا في الإنجاب ومخاطر تغير الديموغرافيا هناك، ولكن هذا لا يهم الرأسمالية لأن في الإمكان توفير عمال جدد (سيكون مصيرهم مشابها لمصير من سبقهم فيما بعد مع تأقلمهم في المجتمع الجديد وثقافته) من المهاجرين. الدول في منطقتنا، والوظائف الحكومية بالتحديد، تمنح النساء إجازات أمومة وغيرها أفضل من كثير من الدول المتطرفة في رأسمالياتها.

من وجهة نظر براغماتية، أرى أن القرار يجب أن يكون خاضعًا لمعطيات الديموغرافيا في كل بلد، فيتم التساهل معه في دول تعاني من كثرة في السكان مثل الشرق الأوسط والهند وبنغلاديش وغيرها، وجعله صعبًا في دول تعاني من تراجع سكاني واضح، مثل اليابان وأوروبا الغربية، وهذا السبب الذي دفع بولندا لإلغاء القرار أيضًا وسط سخط الحركات النسوية.

في الخلاصة، وقد تكون تبسيطية جدًا، أرى أن الموقف الديني يُعلي من شأن الحياة ويضعها في المقدمة برفض قتل الجنين، لكنه يتطرف في ذلك أحيانا ويرفض قتل الجنين على حساب الأم ولا يأبه لحياتها وحريتها، لكن المعيار لديه هو حفظ حياة الجنين بلا شك. من ناحية قومية ووطنية، نجد أن الأحزاب هنا تُعلي من شأن مصير الأمة وديمومتها والحفاظ على الوطن والثقافة، وبالتالي ترفض الإجهاض بهدف حماية الشعب وزيادة عدده، وهو المعيار لديها. أما الليبرالية، فتقدم الحرية على حساب الحياة، وتجعل حرية الفرد في جسده أساسًا وبالتالي لا يمكن منع إمرأة من الإجهاض مهما كان الثمن، وأحيانا بدون تحديد لفترة زمنية حتى وحتى لو تم قتله قبيل ولادته. من ناحية براغماتية، سوف يكون الموقف متغيرًا تبعًا للحاجة وبالتالي المعيار هو المصلحة والمنفعة على حساب الحياة أو الحرية. من ناحية طبية، الأولوية لحياة الأم في حالة كان الأمر يهدد حياتها، ولعدم إيجاد طفل مُعاق في حال ثبت ذلك، وبالتالي، الصحة والحياة هو المعيار، كما هو متوقع. أما الرأسمالية فتجعل ديمومة العمل والربح هو المعيار وعليه لا تفضل وجود أم حامل أو مرضعة ولا ترحب بدفع راتب لشخص لا يعمل، وبالتالي يكون الربح أهم من الحياة والحرية والشعب والثقافة والوطن.



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة