حديث عن أم ريفيّة ( 4 )

علي فضيل العربي
larbi1.fodil@gmail.com

2022 / 10 / 7

قال لي صديقي الريفيّ : أحببت الريف حبّا جمّا ، لمّا سكنت المدينة . لم اكتشف جماله و سحره ، و أنا في أرجائه . اكتشفتهما ، و أنا بعيد عنه . هنا ، أدركت أنّ الأشياء الجميلة ، لا نحبّها إلاّ بعد الابتعاد عنها ، أو عندما نفقدها . مثلما يحدث للمرء ، الذي لا يقدّر النعمة ، إلاّ بعد فقدها و زوالها عنه .
و أردف مستغرقا في بوحه قائلا :
كنت أزور أمّي الريفيّة كلّ أسبوع ، و قد تؤخرني – أحيانا – بعض شؤون العمل ، فيمتدّ غيابي عنها أسبوعين أو ربّما شهرا . و هو أقصى مدّة أبطيء فيها عن زيارتها .
و كان فصل الربيع في الريف أجمل الفصول و أسحرها منظرا و نسائم . فقد حبا الله ريفنا – حيث تسكن أمّي – بنعم لا تعدّ و لا تحصى . و كانت أمّي ، رغم تقدّمها في العمر ، لا يهدأ لها بال ، حتى تضع الأشياء في مواضعها . تنهض و الطير ما تزال في وكناتها ، و لا تأوي إلى كوخها إلا بعد صلاة المغرب .
كنت أشعر بسعادتها الغامرة ، حين أزورها . تستقبلني باسمة الثغر ، مشرقة المحيا ، وئيدة الممشى ، مستندة على خيزرنتها ( عصا من شجر الزيتون مقبضها معقوف ) . تردّد على مسمعي ، على عادتها ، عند كلّ زيارة لها :
- لا أدري ، كيف تطيق العيش في المدينة بين أكوام الإسمنت و الضجيج و ضيق الأفق ؟
- الله غالب على أمره ، يا أمّاه ، لا نحصل – دائما – على ما نرغب فيه . قد تجبرنا ظروف الحياة على العيش في مكان لا نودّ قربه .

و أذكر أنّني لمّا عزمت على الاستبيات ( الزواج ) و ( إكمال نصف ديني كما يقول الريفيّون عندنا ) ، و أخبرتها بذلك ، قالت لي :
- لقد تأخرت يا بنيّ . أكلت أولادك في كرشك ( تأخرت عن الإنجاب ) .
و كان عمري آنذاك ، قد نيّف على الخامسة و العشرين .
قالت أيضا :
- أنا ، يا بنيّ ، لمّا كنت في سنّك ، كان عندي خمسة بطون ( أبناء ) .
و طفقت تعدّهم واحدا واحدا : محمد ، الزهراء ، معمر ، علي ، خيرة ..
- لكنّ زماننا يختلف عن زمانكم ، يا أماه . نظرتنا إلى الحياة غير نظرتكم . بنات زماننا يختلفن عنكنّ ، لا يردن الزواج قبل العشرين . إنّهنّ يشترطن الشاب الموظف بمرتب جيّد ، و منزل مستقلّ عن العائلة ، و غرفة نوم فاخرة ، و سيارة و مهر و هدايا . و قليل من الشباب من تتوفّر لديهم هذه التجهيزات .
- هذه قيود جائرة . تزوجت بأربعة دورو ( ربع دينار ذهبي ) ، على عرف سيدي معمر بومكحلة ( بندقيّة ) . و صندوق خشبي ّ و حصير من الدوم ، و زاد ( مهر ) ، عبارة عن كبش و قطار سميد و قدر دهان ( زبدة تقليدية ) و محرمة ( منديل يوضع على الرأس ) . عشت سعيدة مع مولى بيتي ( زوجي ) ، قانعة ، راضيّة بنعم الله . زمانكم ، يا بنيّ ، زمن العجائب و العنوسة .
- أجل ، يا أماه . لقد تغيّر الحال و الرجال .
قال صديقي الريفيّ :
و لمّا كشفت لأمّي الريفيّة ، عن نيّتي ، في الزواج من زميلة لي في العمل ، و هي شابة في الثانيّة و العشرين من عمرها ، جميلة ، دمثة الخلق ، تمشي على استحياء ، متخرّجة من كليّة الآداب ، و تعمل مدرّسة مثلي ، و من أسرة نازحة من الريف ، منذ أوائل أيّام الاستقلال ، أي حوالي خمسين سنة . رمقتني بنظرة عتاب و استنكار ، و قالت :
- هذا الذي كنت خائفة منه . تريد الزواج من بنت المدينة ، و تترك بنت الريف الأصيلة . هذا لن يكون أبدا . أتريد السير على درب ابن عمّك الذي همل ( تاه ) في المدينة بعد زواجه بعداسيّة ( غجريّة ) من المدينة ؟
- كلا ، يا أمّاه . إنّها فتاة ذات حسب و نسب . أعرفها و تعرفني منذ أيام الجامعة . أهلها ريفيّون مثلنا ، لكنّ ظروف الحرب و المعيشة أجبرتهم على النزوح إلى العاصمة .
- و هل نشأت و تربّت في الريف ؟
- لا ، بل ولدت في المدينة ، و نشأت فيها .
- إذن ، امرأتك ( زوجتك ) ، موجودة ، و قد اخترتها لك و قيّدتها ( حجزتها ) منذ بلغت الفطام ، فلا داعي للبحث عن أخرى .
ثم أردفت ، بعد صمت يسير ، قائلة :
- زوليخة ، بنت جارنا ، الحاج بومدين . لقد بلغت سنّ الزواج .
و كانت عمر زوليخة ، يومها لا ينيف عن السادسة عشرة . حفظت بضع سور من القرآن في قربيش الدوار ( مدرسة قرآنيّة تقليديّة ) ، و عند نهاية المرحلة الابتدائيّة ، و نظرا لبلوغها سنّ الثانية عشر ، أوقفوها عن الدراسة ، و ألزموها المكوث في البيت ، بحجة بلوغها سنّ الزواج .

نصحتني بالزواج بها ، فهي امرأة ريفيّة ، عودها صلب ، ممشوقة القوام ، جادّة ، مجدّة ، معلومة الحسب و النسب – مثلها – كي تخدمني ، و ترضع لي ذريّتي ، و تطيعني في السراء و الضرّاء ، و في الحضور و الغياب ، و سوف لن ترهقني بطلباتها الكماليّة ، و حذرتني من الاقتران بامرأة من المدينة . لأنّ هذه الأخيرة ، لن تستطيع الصبر معي على الحلو و المرّ ، و لن ترضع الأولاد ، بل ستلجأ إلى الحليب الاصطناعي ، حفاظا – كما تزعم – على ثديها من الارتخاء و الترهّل .
و أردفت أمي الريفيّة - قال صديقي الريفيّ – قائلة بنبرة وجلة ، ناصحة :
- نساء المدينة ، يا بنيّ ، يجهلن حياة الريفيين ، من أمثالنا . هنّ لا يعرفن من شؤون البيت مثلما نعرف . و هنّ لا يخدمن الزوج مثلما نخدمه في الريف . لا يخبزن و لا يعجنّ و لا يغربلن و لا يحلبن ، و لا يطبخن طبخنا . هنّ لا يعرفنا سوى تحضير الفريت ( قلي البطاطا ) ، أو البيض ، و غالبا ما يلجأن إلى اقتناء الأكلات المصبّرة ، أو جلب الأكل الجاهز من المطاعم السريعة ، اعتمادا على خدمة التوصيل .
يا بنّي ، إنّ تزوجت من امرأة ، ليست من جلدتك ، و هواها غير هواك ، سترهقك بطلباتها و سلوكها . فهي امرأة نؤوم حتى الضحى ، ستضطر إلى تحضير قهوتك الصباحيّة بنفسك ، أو ستشربها في أقرب مقهى يصادفك . سوف تشتاق لأكلنا الريفيّ الصحّي .
و واصل صديقي الريفيّ حديثه عن أمّه الريفيّة ، و كأنّه كان يغرف الحديث من بحر :
كانت أمّي الريفيّة توّد أن لا أغادر الريف ، و أنزح نحو المدينة . ففي الريف – كما قالت أمّي الريفيّة - راحة البال ، و الهواء النقيّ ، و جمال الشمس و القمر . و الريف موطن الصبر ، و منبع الجود ، ساحة الرجولة و المروءة و الشجاعة و القناعة .
و لكنّ زواجي من بنت المدينة ، وأد أمنيتها المعسولة . لقد أسرّت لي ، بأنّها خائفة من المستقبل ، على مصير الأرض و الكوخ ، بعد رجوع نفسها إلى ربّها . فهي ترى كلّ يوم نزوح الشباب نحو المدن دون عودة . و إذا تواصلت هذه الهجرة الشبابيّة ، المعلنة و السريّة ، فإنّ الريف سيخلو من أهله ، و يمسي يتيما .



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة