النساء والإنتاج الفني

سعود سالم
saoudsalem@free.fr

2023 / 3 / 19

هناك بالضرورة خيار ثالث أمام المرأة بخصوص العلاقة بين الإنتاح الفني النسائي وبين ما يسمى بالفن وتاريخ الفن، غير هذين الخيارين المذكورين أعلاه، التعاون (الاندماج ، الاستيعاب، التواطؤ ..) والانقسام أو الانفصال، يمكن العثور على آثاره في بعض كتابات الفنانات أو في نهجهن وممارستهن الجمالية. هذا الاختيار لا يتعلق بتاريخ الفن كموضوع للدراسة والبحث المنجز المنتهي، لكن بالفن بحد ذاته وتاريخه كعملية حيوية مستمرة الحدوث. هذا الخيار يتمثل في القطيعة الكاملة والنهائية مع نظام القيم الفنية التقليدية، قطيعة تامة ونهائية بين الفن والإقتصاد الرأسمالي الليبرالي، قطيعة كاملة ونهائية بين الفنان وأصوله البيولوجية والعرقية واللغوية والثقافية. أي محاولة تخيل وبناء عالم جمالي مغاير مبني على أسس فكرية وجمالية جديدة، تبتعد قدر الإمكان عن التعبير والتعليق والأحاسيس والعواطف، والوصول إلى فن عقلي مجرد لعيش تجربة جمالية فريدة تدعوا إلى الدهشة والتفكير بدلا من السخرية أو البكاء أو التنديد أو التعاطف .. إلخ
يمكن للمرء أن يتوقع الحجج المعارضة لهذه الرؤية مثل حقيقة أن الموضوع الفني لا يعيش في جزيرة معزولة ولا في واحة صحراوية، فهو غير معزول عن بيئته الثقافية والبيولوجية، وباختصار هو موضوع مادي بيولوجي وإجتماعي حقيقي وليس تجريدًا ولا يمكنه التعبير عن ذاته دون أن تظهر هذه العوامل بطريقة أو بأخرى .. تجربته الإجتماعية وعلاقاته مع العالم الزماني والمكاني تفرض عليه نوعا معينا من الإنتاج الفني يمثله في هويته الإجتماعيى والتاريخية والسياسية. وهذا صحيح لحد الموت، وكل الأدب النقدي - ولا سيما الماركسي - أكد هذه الحقائق منذ وقت طويل، ولهذا السبب بالذات يجب أن يكون هناك قطيعة كاملة ونهائية مع فن "التعبير" هذا الذي يتمثل في التعليق على الواقع أو وصفه أو الإعجاب به أو كرهه والتنديد به ومحاولة تغييره، فن الميميميس μίμησηισ أو فن التقليد ومرآة الواقع الذي أنتقذه اليونانيون منذ إفلاطون.
بطريقة ما يجب تجاوز فن التعبير والتمثيل والتقليد، والتخلَّي عن الصور التقليدية لإنتاج الفن وتخيل وإبداع طرق وإمكانيات جديدة لإنتاج الصور، بشكل فردي وجماعي، دون أن تصبح هذه الصور مجرد سلعة قابلة للتبادل التجاري، ولو كانت سلعا فاخرة.
ذلك أن الفن يتكون حاليًا من إنتاج أشياء تسمى "أعمالًا فنية" أو "أشياء جمالية": أشياء من جميع الأنواع مثل اللوحات والمنحوتات والمسرحيات والحفلات الموسيقية وكتب الشعر أو الروايات والأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية … أشياء مادية يتم إنتاجها من قبل العاملين في هذه المجالات ثم يتم استبدالها في سوق الفن بمبالغ مالية لا تعكس بالضرورة القيمة الحقيقية لهذه المنتجات. وكمثال على الإستلاب الذي ينخر الفن والفنانين هو صالات المزاد، حيث تباع الأعمال الفنية لمن يدفع أكثر من الآخرين. وقد شهدت سوق الفن المعاصر في العالم عام 2022 نمواً مدفوعاً بفنانين دون سن الأربعين، وكانت النساء في الصدارة، مع تراجع طفيف في إجمالي الإيرادات إلى 2.7 مليار دولار، وفق تقرير سنوي أصدرته مجموعة «آرت برايس». وبين عامي 2021 و2022، قفزت المبيعات في سوق الفن «المعاصر للغاية» من 300 إلى 420 مليون دولار، وفي سوق الفن المعاصر العالمي، استعادت الولايات المتحدة المركز الأول، إذ بلغ حجم مبيعاتها مليار دولار، بزيادة قدرها 39%. ولا تزال هيمنة دور المزادات في البلدان الناطقة بالإنجليزية مطلقة، إذ تستحوذ صالة كريستيز Christie’s على 31% من حجم المبيعات في جميع أنحاء العالم، وسوذبيز Sotheby’s على حوالي 26%، وفيليبس 14% ويمثل ذلك أكثر من 70% من جملة قيمة هذا القطاع.
هذا الجانب من الأشياء هو واقع سوق الفن والترفيه، لكن هذه السلعة ليست سلعة مثل أي سلعة أخرى: هناك نوع من القداسة المفتعلة التي تجعل هذه المنتجات تحتوي على طاقة إيحائية ورمزية وربما روحية مخبأه وراء الخطوط والألوان والكلمات والأصوات والصور، لها علاقة مباشرة بالقيمة المالية لهذه المنتجات، كلما أرتفع سعر العمل الفني، كلما زادت الطاقة الرمزية والإيحائية اللامرئية للعمل، وكذلك بالمؤسسات الرسمية المختلفة التي تصدر الشهائد التي "تضمن" وجود هذه القيم المخبأة والمخفية. بالإضافة إلى هذا "الشيء" الغامض الذي يجعل من الخطوط والألوان "عملا فنيا"، هناك عامل آخر هو أن هذه الأشياء ليست طبيعية ولا يمكن إستخلاصها من الطبيعة كالذهب أو الماس وما شابه من الأشياء الثمينة، بل هي أشياء مصنوعة من قبل الإنسان كفرد، ولكن ليس كما نصنع الأبواب والنوافذ والأسرة أو السيارة والطائرة إلخ. صانع هذه الأعمال هو الخالق لها والمبدع والفنان، وهو غير مجهول الهوية كصانع السرير أو الكرسي، إنه الفنان المرتبط إرتباطا عضويا وأنطولوجيا باللوحة أو القصيدة أو القطعةالموسيقية، تمثله وتعبر عن كينونته ووجوده في العالم.

يتبع



https://www.c-we.org
مركز مساواة المرأة